لا يزال من الصعب في مجتمعاتنا العربية تقبل فكرة أن تعمل المرأة سائقة حافلة، أو مترو، أو حتى سائقة تاكسي. فتلك مهن لا تزال حكراً على الرجال في مفهومنا للعمل. ولعل الأصعب من ذلك رؤية فتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها تعمل في مجال تصليح محركات الزوارق والقوارب. فمثل هذا العمل يتطلب من صاحبه قوة وجهداً كبيرين ليتمكن من القيام بفك قطع المحركات وإعادة تركيبها. الملامح الأنثوية لأحد العاملين في محل التصليح هذا تلفت انتباه المارة، خصوصاً أن الشابة لا تبدو عليها ملامح الخشونة والرعونة، لا في تصرفاتها ولا حتى في حديثها. جيهان ابنة العشرين سنة، هي الكبرى في أسرة بلغ فيها الأب سن التقاعد، بعدما كان يعمل ساعي بريد. لم يستطع الوالد أن يدخر أي قرش يعيل عائلته عندما يتقاعد. أما الأم فتعمل معينة منزلية لدى أسرة ميسورة ولا يتجاوز راتبها في نهاية الشهر 250 ديناراًپ أي ما يعادل 200 دولار. وتعمل جيهان في هذا المحل منذ عامين، تعلمت خلالهما أصول المهنة وأسرارها. والغريب أنها دخلت هذا المجال"بالواسطة"أو كما تقال بالدارجة التونسية"معارف".پ فأحد أصدقاء والدها هو من تدخل لدى صاحب المحل ليتيح لها فرصة العمل عنده وتعلم المهنة متجاوزاً عمرها وكونها فتاة. وجيهان لم تختر هذا العمل حباً فيه أو طواعية، بل دخلته مكرهة بعد أن وصل أبوها إلى سن التقاعد، ما وضع الاسرة في ظروف صعبة. فتركت الشابة دراستها وحياة الأنوثة التي كانت تعيشها، وانطلقت في مهنة شق على الرجال العمل بها. وتقول أنه لو كان الأمر بيدها لما اختارت أن تترك الدراسة لتعمل"ميكانيكية"على رغم أنها لم تكن متفوقة في الدراسة. وتضيف:"كنت على الأقل توجهت نحو المهن اليدوية النسوية، فهي أصلح حالاً من هذه المهنة". وتزيد:"لكنها تدر علي دخلاً معقولاً ومضموناً نهاية كل شهر". جيهان هي الأخت الكبرى لأربعة اخوة لم يتجاوز أكبرهم الخامسة عشرة من عمره، وأسرتها المكونة من سبعة أفراد تعيش في شقة صغيرة في منطقة الوردية الفقيرة في ولاية بن عروس. لذا يترتب على جيهان توزيع دخلها الذي يقارب 260 ديناراً تونسياً بين إيجار المنزل المكون من غرفتين، والبالغ 90 ديناراً في الشهر، إضافة إلى فواتير الكهرباء والغاز والمياه، وأن تساعد أمها في تكاليف تعليم اخوتها، تلافياً لخروجهم من المدرسة. وأكثر ما تعتمد عليه جيهان هو"البقشيش". ولا تجد جيهان متسعاً من الوقت لنفسها، لتتزين أو لتخرج مع صديقاتها إلا في أيام الآحاد. فهي مضطرة للعمل حتى السابعة أو الثامنة مساء، لتعود إلى بيتها منهكة من عناء يوم طويل،پ لا تستطيع في نهايته حتى أن تجالس اخوتها ووالديها، أو حتى أن تحادثهم. فهي مضطرة للنوم لتصحو على يوم تعب جديد. وأكثر ما يشغل بال جيهان هو المستقبل، فثمة فكرة لا تفارق مخيلتها"كيف سأتزوج، ومن سينظر إلى فتاة يكاد الشحم لا يفارق أصابعها؟".