كما هو متوقع كشف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي النقاب أخيراً عن الاستراتيجية الأمنية الجديدة لبلاده، والتي تعكس تحولا تاريخيا عن المنهج الفرنسي المعروف بالتركيز على فكرة التهديدات العسكرية المباشرة والعمل على تطوير القنوات المخابراتية للتعامل مع التهديدات الجديدة لمرحلة الحرب ضد الإرهاب والحرب الإلكترونية. هذه الاستراتيجية الأمنية الفرنسية الجديدة هي الأولى منذ 14 سنة. وعرضها ساركوزي أمام ثلاثة آلاف عسكري فرنسي في باريس. وهي تعتمد على دراسة مفصلة استغرق إعدادها سنة ووضعها فريق مكون من 35 من كبار العسكريين في فرنسا وأصبحت تحمل اسما رسميا هو"الكتاب الأبيض لشؤون الدفاع والأمن القومي". ومن معالم الاستراتيجية الجديدة إقامة أول قاعدة عسكرية لفرنسا في منطقة الخليج ومقرها دولة الإمارات. وأيضا تأكيد فرنسا على عدم اعتزامها التخلي عن افريقيا التي وصفها ساركوزي بأنها"مفتاح التنمية والأمن الدولي خلال السنوات المقبلة". ثم عودة فرنسا إلى عضوية الجناح العسكري لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وهو الذي كانت فرنسا انسحبت منه في سنة 1966 بقرار من الرئيس الفرنسي وقتها: شارل ديغول. لكن العودة إلى عضوية الجناح العسكري لحلف شمال الأطلسي موجودة في العقل السياسي الفرنسي منذ سنوات الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الذي كتب ذات مرة يعرضها رسميا على الرئيس الأميركي وقتها - بيل كلينتون - مقابل تعيين اثنين أو ثلاثة من كبار الضباط الفرنسيين في القيادة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي. هذا الشرط الأخير بحد ذاته أدى إلى رفض أميركي للعرض الفرنسي لأن تلك القيادة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي تعني تحديدا منطقة البحر الأبيض المتوسط وأيضا إسرائيل وارتباطها بالأسطول السادس الأميركي. وكل هذا تصر أميركا على أن تحتكره لنفسها من دون مشاركة، أو حتى مجرد تطفل، حتى من أقرب حلفائها. ربما من أجل هذا جاء ساركوزي ليقلب العلاقة الفرنسية رأسا على عقب. فبدلا من الندية والاستقلالية المألوفة منذ سنوات شارل ديغول والمستمرة بعده بدرجة أو بأخرى اختار من لحظته الأولى الارتباط الكامل بالسياسة الأميركية إلى درجة قد يراها البعض تبعية كاملة. لكن زيادة على ذلك خرج ساركوزي بمشروع سمّاه"الاتحاد من أجل البحر المتوسط". في البداية كانت الفكرة هي قيادة فرنسا لرابطة مستمرة مع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط -تسع دول عربية بالإضافة إلى إسرائيل كبديل عن فشل عملية برشلونة التي كانت انطلقت في سنة 1995. وحين احتجت ألمانيا على هذا التوجه الفرنسي قائلة إنه يعطي لفرنسا مساحة للتحرك استقلالا عن الاتحاد الأوروبي، جرى تعديل المشروع ليضم كل دول الاتحاد الأوروبي زائداً الدول العربية التسع، زائداً إسرائيل. وهكذا فإن ما فشلت إسرائيل في الحصول عليه من خلال عملية برشلونة يجيء الرئيس الفرنسي لكي يتيحه لها مجانا من خلال مشروعه الجديد بحجة أنه"أفضل وسيلة للخروج من حلقة الانتقام والكراهية الجهنمية بين العرب وإسرائيل". لكن إذا كان هذا هو بعض ما يهم فرنسا ساركوزي فإن الهم الأكبر للدول العربية المتوسطية هو الإغلاق الكامل لدول الاتحاد الأوروبي أمام العمالة العربية. وفي الوقت الذي تصر فيه دول الشمال على فتح أسواق دول الجنوب أمام حركة التجارة والسلع والأموال تحت عنوان"العولمة"فإنها ترفض بالكامل أن تمتد تلك العولمة إلى سوق العمالة. بل إن فرنسا وإيطاليا وألمانيا بدأت تمارس إجراءات صارمة للتخلص تدريجيا من نسبة ملموسة من العمالة عربية الجذور لديها. وأحد الأهداف غير المعلنة لمشروع ساركوزي"الاتحاد من أجل المتوسط"منع تلك العمالة من المنبع. أي أن تتكفل الدول العربية ذاتها بمنع عمالتها من التحرك شمالا وعبور المتوسط لأسباب اقتصادية. وإذا لم يكن هذا عنوانا كافيا يصبح العنوان الإضافي هو"منع الإرهاب"من الوصول إلى أوروبا. قبل الغوص في ذلك الشعار المطاطي ضد الإرهاب نريد هنا أن نفتح قوسا لنسجل أنه بموازاة ذلك التحرك من ساركوزي نحو الدول العربية وتركيا جنوب البحر الأبيض، ونحو إسرائيل، فإن دول الاتحاد الأوروبي كمجموعة وافقت اخيراً على رفع مستوى العلاقات مع إسرائيل، بل وبدأت تبحث في طلب إسرائيل منحها صفة"الشراكة الاستراتيجية"مع الاتحاد الأوروبي بما في ذلك إشراك إسرائيل في آليات صنع القرارات الأوروبية وعقد قمة سنوية مشتركة بين إسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي. أيضا تزامن ذلك في الأسبوع نفسه مع إعلان كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية رفضها لمشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو إسرائيل إلى وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. مشروع القرار هذا كان تقدم به بعض الدول العربية نتيجة لإعلان إسرائيل عن مناقصة لبناء أكثر من 800 وحدة سكنية جديدة في مستوطنات في القدس. وسواء بدأنا بالاتحاد الأوروبي أو انتهينا إلى الاعتراض الأميركي فإن الرسالة المتكررة إلى العرب هي: لن نضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان. لن نربط علاقاتنا مع إسرائيل بسلوكها في الأراضي المحتلة. بل إن خطاب ساركوزي في الكنيست الإسرائيلي هذا الشهر لم يرد فيه أصلا أي ذكر لعبارة"الأراضي المحتلة". انتهى القوس. بالعودة إلى الاستراتيجية الأمنية الفرنسية الجديدة فإن نقطة انطلاقها مراجعة سياسات سابقة مستمرة، وتغييرها جذريا. هذا تطور غير مفاجئ في السياسة بين وقت وآخر. فرنسا كانت ضد توحيد ألمانيا ثم غيرت رأيها. ألمانيا كانت ضد غزو أميركا للعراق والآن تسايره. إسبانيا كانت ضد استقلال كوسوفو والآن تبتلعه. أوروبا فرضت لسنوات عقوبات ضد كوبا والآن ترفعها. لكن من زاوية اهتمامنا هنا فإن المشكلة التي بدأت تصبح متكررة هي التنصل المنهجي من التزامات جرت سابقا تحت عنوان القانون الدولي والمشروعية الدولية. مثلا: في جلسة التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في 22/11/1967 كانت فرنسا في مقدم الأطراف التي حرصت على أن تسجل في المضبطة علنا أن القرار يعني انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة. الآن تبتلع فرنسا ما سبق وتلحق نفسها بالسياسة الأميركية التي هي في أفضل حالاتها سياسة مراوغة ولئيمة. والسياسة الأميركية أعلنت قبل ست سنوات أنها تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة. الآن هي مازالت تؤيد، وما زالت تعلن. لكنها طوال ست سنوات صمتت بالكامل على كل ما تفعله إسرائيل في الاتجاه العكسي، بل إنه في رسالة مكتوبة شهيرة، أعطى الرئيس الأميركي جورج بوش التزامات مضادة إلى رئيس وزراء إسرائيل - آرييل شارون وقتها. وأخيراً ابتدعت الإدارة الأميركية، وهي في أشهرها الأخيرة بالسلطة، فكرة أنه لا بد أولاً من البدء بوضع تعريف لتلك"الدولة الفلسطينية"قبل التحرك نحو إقامتها. وستمضي هذه الإدارة الأميركية إلى مصيرها في شهر كانون الثاني يناير المقبل كي تجيء إدارة جديدة وتقول إن ما فات مات، ومن حقها أن تعيد قراءة الملف من أوله. ولسنوات طويلة كانت فرنسا هي الأكثر حرصا بين الدول الأوروبية على وضع مسافة بينها وبين السياسة الأميركية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط عموما، وبالصراع العربي -الإسرائيلي خصوصا. لم تفعل فرنسا ذلك في أي لحظة انحيازا منها إلى العرب أو عداء لإسرائيل، وإنما بالأساس انحيازا لمصالح فرنسا ذاتها. وحينما نشأت الأزمة الشهيرة في المنطقة في أيار مايو 1967 خرج الزعيم الفرنسي شارل ديغول وقتها ليعلن صراحة أن فرنسا ستكون ضد الطرف الذي يبدأ الحرب. ولأن إسرائيل هي التي بدأت حرب حزيران يونيو 1967 فقد أعلن ديغول إلغاء صفقة بتسليم خمسين طائرة ميراج فرنسية كانت إسرائيل تعاقدت على استيرادها وسددت لفرنسا ثمنها مسبقا. كان ديغول يعرف أن تلك ربما تكون موقتا خسارة لفرنسا لكنها لن تصبح كذلك مع الوقت. ذلك هو ما جرى بعدها فعلا، حيث باعت فرنسا ضعف تلك الطائرات إلى دول عربية في صفقات تالية. لكن الأهم من تلك الصفقات ومكاسبها المالية لفرنسا كان الصدقية التي أصبحت فرنسا تحظى بها في العالم العربي بمجموعه تمييزا لها عن أي أطراف غربية أخرى. والآن، إذا كان هذا تاريخا وانقضى، بل وأصبحت فرنسا ساركوزي تختلف جذريا عن فرنسا ديغول، فإن الاختلاف لا ينتهي هنا. في سنة 1975 كانت فرنسا هي التي قادت ما سمي وقتها بالحوار الأوروبي - العربي، سعيا إلى علاقات أوروبية مع العرب كجماعة، تكون أقوى منها مع دول فرادى. ذلك التطور في حينه كان استخلاصا لدروس الأداء العسكري والسياسي العربي في حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. والآن في سنة 2008 يجيء نيكولا ساركوزي ليدعو إلى"الاتحاد من أجل المتوسط"، وهي علاقة تخاطب أساسا أولويات فرنسية، وبالكثير أوروبية، بغير أن تأخذ في الاعتبار الأولويات العربية. ثم إنها، وفي اللحظة التي تعبر فيها عن الطرف الأوروبي بكامله ويتشكل من 27 دولة، لا تريد من العرب سوى تسع دول وتركيا بحجة أنها المطلة على البحر الأبيض المتوسط. ثم إنها تقحم إسرائيل في ما هي دخيلة عليه، وتعطيها مكافأة مجانية على ما لم تسدد أي جزء منه. لقد فكرت فرنسا في التحرك منفردة فأرغمتها ألمانيا على التحرك جماعة. مع الجانب العربي يجري العكس. كنا جماعة. والآن نتصرف فرادى... حتى لو كنا تسعة. * كاتب مصري