دورة حياة جديدة وجولة أخرى من القراءة، ستتاح لروايات الكاتب المغربي الراحل محمد شكري وسيره 1935 - 2003 في طبعتها الجديدة، التي عمل على جمعها وإصدارها المركز الثقافي العربي بيروت - الدار البيضاء في مجلدين، بعنوان واحد"من أجل الخبز وحده"، العنوان الذي صدرت به روايته الأشهر"الخبز الحافي"في طبعتها الإنكليزية. ليس من المبالغة في شيء إذا وصفنا صدور الأعمال الكاملة لهذا الكاتب الإشكالي والجريء والمغضوب عليه في الثقافة العربية الرسمية بالحدث الأدبي الذي يستحق الاهتمام. ستوفر هذه الأعمال مجتمعة للقارئ، إمكان الوقوف ملياً على عوالم الكاتب"الصعلوك"، وإعادة اكتشاف أجوائه وشخصياته المسحوقة، وأمكنته التي تضج بالصخب والفوضى. ولئن ظلت ولا تزال"الخبز الحافي"، التي صدرت في 1972 بالانكليزية، هي الأشهر من بين أعماله، يزداد قراؤها مع كل طبعة جديدة، وتتسع باستمرار دائرة تلقيها والاهتمام بها، فإن التئام معظم أعمال صاحب"مجنون الورد"في مجلدين، يمثل فرصة لبعض تلك الأعمال التي لم تحظ بالشهرة، وظلت بعيدة نوعاً ما من إقبال القراء وانتباه النقاد. ضم المجلدان سبعة من أعماله، التي طبعت وأعيدت طباعتها مرات عن دور نشر عربية وسواها. في الأول نطالع"الخبز الحافي"و"زمن الأخطاء"و"وجوه"، ويتضمن الثاني"السوق الداخلي"و"بول بولز"و"عزلة طنجة"و"جان جينيه في طنجة"و"تنيسي وليامز في طنجة". وسيعيد ظهور هذه الأعمال في طبعة جديدة، وبعنوان واحد، الجدال حول الكاتب، الذي طالما وصف ب"الملعون"و"المنبوذ"و"الفضائحي"في الثقافة العربية، التي لم تعرف كتبه وتعترف بها، سوى بعد أن ذاع صيته في الغرب، وأضحى كاتباً عالمياً، باقتحامه مناطق محرّمة في الأدب العربي، وبجرأة غير مسبوقة. فأعماله تقوم في شكل شبه كامل على حياته الشخصية وتفاصيلها الصريحة، فهي المرجع الأساس الذي تنطلق منه، إذ لم يحبذ التخفي وراء شخصيات رواياته وأبطالها. عاين مجتمعه من زواياه السفلية، نظر إليه من القاع وأناسه الأكثر تشرداً، من ماسحي الأحذية، وبائعي السجائر المهربة، وممارسي الدعارة مع الأجانب وسواهم. ولد محمد شكري عام 1935 في قرية ريفية بائسة، كانت تخضع للاحتلال الإسباني في شمال المغرب، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلاّ في العشرين من عمره. ونشر أول قصة له في مجلة"الآداب"في 1966 وكانت بعنوان"العنف على الشاطئ". وعاش في طنجة، المدينة الكوزموبوليتية، التي أضحت بتنوع عوالمها وجذبها للأجانب، فضاء أثيراً في رواياته. عد النقاد أعمال شكري، الذي مارس عقوقاً خلاقاً على مواضعات الأدباء العرب وتحفظاتهم، استثناء فريداً في الكتابة العربية، ويعود هذا الاستثناء إلى حياته الشخصية، التي كانت في الوقت نفسه، مثالاً للحياة المكشوفة والشريدة والشاقة، التي عاشتها شرائح المهمشين في المغرب وسواه. وعلى رغم استماتته في التعبير بصدق عن أولئك المهمشين، إلا أنه لم يسلم منهم، إذ اتهموه بالمتاجرة في بؤسهم وشقائهم. على أن القراء الذين أظهروا اشمئزازاً وعبّروا عن امتعاضهم مما يكتبه الراحل، راحوا يروجون، في شكل غير مباشر لأعماله، لتقرأ في السر والعلن، وتمارس فضحها للمجتمعات العربية ذات الوجه المزدوج، معرية قيمها الزائفة، ونازعة عنها قشرتها الخارجية الهشة، بحثاً عن العمق الذي يصدم ويربك. وإذا كان هناك من لا يزال ينظر إلى أعماله وسيره بصفتها نصوصاً فضائحية، في ما يشبه المحاكمة الأخلاقية، فإنه ظل يدافع عن كتاباته، حاضاً القراء على رؤية ما هو أكثر من ذلك، أي تأمل انحيازه إلى الطبقة المهمشة، وتبنيه جملة من القيم النبيلة، فلطالما عدّ نفسه كاتباً ملتزماً اجتماعياً، يؤمن بكرامة الناس ويدعو إلى احترامها. ولعل من اللافت، أنه على رغم صدور"الخبز الحافي"في 1982 بالعربية، التي كتبها وهو في ال37، وترجمت إلى نحو عشرين لغة وتحولت فيلماً أخرجه رشيد بلحاج في 2004، لا تزال متوهجة، تنأى عن التقليد والاستنساخ، وعصية على النسيان على العكس من أعمال أدبية كثيرة، كانت الأولى لكتابها، طاولها الإهمال ولم يعد لها أي ذكر. لم تتضاءل أهمية هذه الرواية، وبدا أنه كلما تقدم الزمن بها، اكتسبت مناعة أكثر ضد النسيان. وأضحت معروفة اليوم، شأن الكثير من التفاصيل في حياة محمد شكري، الطريقة التي كتبها بها ثم أملاها على بول بولز، ليقوم هذا بترجمتها إلى الإنكليزية لتصدر في 1973، كما سيترجمها الطاهر بن جلون إلى الفرنسية. شهرة"الخبز الحافي"التي جنت على ما سواها من أعمال، أزعجت شكري، بل انها سحقته، على حد تعبيره. أصدر الكتاب تلو الآخر، بقصد كبح تلك الشهرة، لكنه لم يقدر. يقول في حواراته الصحافية، إن الأطفال في الشوارع لا يهتفون له باسمه، بل ينادونه"الخبز الحافي". حاول عدد من الأدباء، سواء في المغرب العربي أم في المشرق، كتابة سيرهم، بأكبر ما يستطيعونه من جرأة في الفضح، لكنهم لم يقدموا فيها ولو جزءاً بسيطاً مما قضى صاحب"الخيمة"عمره كله، يشتغل عليه ويرسخه في ذاكرة لم تعتد هذا النوع من الكتابة الجارحة، ربما لأنهم اكتفوا بالتقليد وبالتقاط الظاهر والخارجي. استعار أولئك الكتاب من صاحب"السوق الداخلي"مومساته، شواذه، سلطة الأب، حياة الفوضى والتشرد، لكن كتاباتهم ظلت تفتقر إلى الصدق، وإلى العالم الخاص بها. كان الغرب حاضراً في خيالهم، أثناء ما كانوا ينجزون سيرهم، رغبة في الترجمة وتحقيق شهرة واسعة أسوة به، في حين كانت الكتابة عند صاحب"غواية الشحرور الأبيض"مغامرة وجودية، مغامرة هدفها التعبير عن ذاته وعالمه، عن شغفه بالحياة، من دون مراوغة، وبكل ما يمكنه من صدق. اعتمد شكري على عدد من السير الذاتية لأسماء عالمية، للانطلاق في التعبير بشجاعة عن ذاته، سير واعترافات للقديس أوغوسطين وجان جاك رسو وسومريست موغان وكولن ولسون وسارتر وخوان غويتيسولو. لا تزال روايات شكري قادرة بقوة على إشعال العاطفة، وإثارة حزن شفيف، وإيقاظ نزوة غافية، أي ما كان يعكس فهمه للكلمة، ويريده هو من الكتابة في شكل عام، عندما قال في مقدمة روايته،"الخبز الحافي":"قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف، حتماً، طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه. المهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية، أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات". منعت أعمال محمد شكري، الذي اختلف حوله الأدباء المغاربة، فهناك من يعتبره كاتباً متميزاً لن يتكرر، وآخرون يرون أنه يفتقد الموهبة الأصيلة ولا يستحق الشهرة التي حظي بها، في المغرب ومصر، وصادرتها بلدان عربية عدة، وهددته جماعات أصولية بالقتل. لا يدين شكري بشهرته لبول بولز الذي اتهمه بسرقة حقوقه عن رواياته التي ترجمها إلى الانكليزية، إنما إلى الطاهر بن جلون الذي ترجم"الخبز الحافي"إلى الفرنسية، ويعتبر أن قيامه بالترجمة جاء تكفيراً عما ألحقه به من أذى، عندما أشاع أن شكري لم يكتب أصلاً نصاً بالعربية، إنما أملى حكايته شفوياً على بولز، الذي قام بصوغها أدبياً. پعندما صدرت روايته الثانية"الشطار"أو"زمن الأخطاء"في طبعة أخرى، بحسب اقتراح الناقد محمد برادة، في 1992، سرعان ما لاحظ القارئ الفارق بينها وبين روايته الأولى، إذ تنم الثانية عن وعي ونضج فنيين، وأظهر فيها الكاتب تمرساً ومراناً لافتين، تعكس كلها تطور شكري وتعمقه في قراءته، لكن القارئ، من جهة أخرى، لم يتحمس كثيراً للوعي والنضج في"زمن الأخطاء"، وفضل عليها تلك العفوية والتلقائية، تلك الأمية والفطرة في النظر إلى الأشياء، وفي مقاربة حياة ملؤها الفاقة واليأس، ببساطة آسرة. عاش شكري حياة مزيج من الحرمان والمتعة، ولم يتزوج، وبالأحرى تزوج قراءته وكتاباته وأصدقاءه، هكذا يقول في المقابلات الصحافية التي أجريت معه. ظلت عقدته أن يتزوج ويكون له ولد، وأن يتصرف هو معه مثلما تصرف والده معه. حكى شكري قصة والده في"الخبز الحافي"وكيف خنق أخاً له حتى الممات، كيف كان يقيده إلى شجرة ويضربه بالحزام، يظهر الأب في الرواية عنيفاً وقاسياً، لكنه، لاحقاً، سيلتمس العذر لوالده على تلك القسوة، وسيرى أنها صادرة عن"العنف والبؤس الذي كان يعيشه المغرب تحت وطأة الاستعمار". حسناً فعل المركز الثقافي بجمع روايات شكري وسيره، بعد أن اتفق مع ورثته، وانطلاقاً منه كدار نشر مغربية، قبل أن تكون لبنانية، بحسب مدير الدار حسن ياغي، الذي يرى أن صدور الأعمال الكاملة تأتي"كتعبير عن الاهتمام، خصوصاً أن هذه الأعمال لم تُجمع، بل هي غير متاحة لمن يريد قراءة كل أعمال شكري، فمنها ما هو نافد ولم يعد طبعه، ومنها المطبوع في هذا البلد أو ذاك. ولأن محمد شكري توفي، فقد فكّرنا في إصدار هذه الأعمال". ويؤكد ياغي"أن شكري يعد واحداً من الكتاب العرب الذين قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، الأكثر مقروئية في العالم، وقد ترجمت أعماله وصدرت في طبعات أكثر من عدد طبعاتها العربية، مع أن محمد شكري لم يكتب لپ"الغرب"كما فعل غيره من الذين ينتقد شكري كتاباتهم". وأخيراً يمكن اعتبار صدور الأعمال الكاملة، في معنى ما، دعوة إلى قراءة أعمال شكري، لمرة ثانية، بخاصة أنها تأتي بعد رحيله، وتلمس ما أضافه من مقترحات مهمة للكتابة الإبداعية في شكل عام، وبالتالي وضعه في مكانته الحقيقية التي تلائم جرأته النادرة ونضاله من أجل حياة حرة.