أعاد ارتفاع أسعار النفط الاعتبار للاقتصاد في الجدل السياسي العالمي والمحلي، ووحد الهم العالمي حول الأسئلة الأساسية للبقاء والتنمية، وأطل على أفق لتغييرات ضرورية بدت مستعصية أو مؤجلة لكثير من الوقت. كما كشف عن أن كثيرا من التحليل الاقتصادي السائد في الإعلام العالمي أقرب إلى الترويج لمصالح بعض اللاعبين في ملعب الاقتصاد منه إلى كشف الحقائق أو قراءة ناجحة للمستقبل. ولذلك بدا العالم اليوم مستغرباً، وإلى حدٍ ما مستهجناً. ومؤخراً، اختلف وزراء مالية الدول الصناعية الثماني الكبرى على تشخيص أسباب الارتفاع، فأحالوا الأمر لخبراء صندوق النقد الدولي لإبداء الرأي وإصدار تقرير في تشرين الأول أكتوبر، حيث انقسموا بين طرح يحمّل المضاربين المسؤولية الكبرى عن ارتفاع النفط، وآخر يعتبره ناتجا عن مستوى غير كاف من الإنتاج. ويدعم كل من أميركا وبريطانيا الطرح الثاني. ولعل تصريح وزير مالية اليابان، فوكوشيرو نوكاغا، بأن"الإحساس السائد هو أن أحداً لا يعرف حقيقة ما يجري فعليا"يشير إلى أن صراع المصالح على تلك السلعة الاستراتيجية يتوارى خلف دخان من الغموض. وتعتقد بعض دول أوبك المنتجة للنفط أن السعر الحالي للنفط مبالغ به، مرجحة الطرح الذي يحمل المضاربين المسؤولية الكبرى. وطريقة عمل المضاربين في سوق النفط تختلف عن الطريقة الكلاسيكية للمضاربة في مجالات أخرى - كالمضاربة بالعملات -فهم يشترون عقود نفط"مستقبلية"عند تخمينهم أن أسعار النفط سترتفع ثم يبيعونها لاحقاً، أو يبيعونها مسبقاً عندما يخمنون بأن أسعار النفط ستنخفض ثم يشترون النفط لاحقاً. ويطلق على تلك العقود براميل النفط الورقية لأن المضاربين لا يستلمون النفط الخام ويخزنونه وإنما ينقل النفط مباشرة من المنتج إلى المستهلك الحقيقي الذي اشترى العقد المستقبلي. وقدمت بعض الدول الأكثر استهلاكاً للنفط اقتراحات لضبط المضاربات وبالتالي وقف تقلبات الأسعار وخفض الأسعار المبالغ بها للنفط"كوقف المتاجرة بالعقود المستقبلية لبعض المضاربين أو حظر القروض المالية لإبرام عقود نفط مستقبلية أو فرض قوانين جديدة تنظم المضاربات وتقلل من أثارها السلبية. ويعتقد بعض الخبراء أن هذه العقود المستقبلية ذات الأسعار المرتفعة ما كان لها أن تجد مشترياً لو كان المعروض يطمئن قلق الاحتياج العالمي من النفط. ولكن خبراء آخرين يرون أن المضاربين قد يستخدمون الإعلام لتضخيم بعض الأسباب الكلاسيكية التي تحرض على رفع أسعار النفط بحيث يجنون مزيداً من الأرباح عند بيع العقود المستقبلية. ومنها، نمو الطلب على النفط من الاقتصاديات الناشئة مثل الهند والصين، والقلاقل السياسية في الدول المنتجة للنفط مثل نيجيريا والعراق وفنزويلا والتوتر الأميركي - الإيراني والإرهاب، والمشاكل البيئية مثل الأعاصير التي قد تضرب أماكن تخزين أو إنتاج النفط مثلما حدث في خليج المكسيك، وتراجع قيمة الدولار، وعدم اكتشاف آبار نفط جديدة، وعدم قدرة الدول المنتجة للنفط على زيادة معدلات إنتاجها الحالية باستثناء السعودية والأمارات العربية وبهامش محدود، والاستعاضة عن استخدام الفحم بالنفط لخفض معدلات التلوث، ونقص التنسيق ما بين الدول المنتجة للنفط من غير أعضاء منظمة أوبك. حتى أن إجراء كوريا الشمالية لاختبارات على صواريخها قد استخدم كمبرر لرفع أسعار النفط. وقد ساهم انخفاض قيمة الدولار وأزمة القروض الائتمانية وزيادة عوامل المجازفة على الاستثمارات المالية إلى توجه المستثمرين إلى الاستثمار في السلع والمواد الأولية بما فيها سلعة النفط. كما أن كثيرا من مصافي النفط في العالم تفضل النفط الخفيف على النفط الثقيل لأنه يحقق أرباحاً أكبر لها. فلذلك، وإلى جانب النقص في عدد المصافي وبطء عملية بناء مصافي جديدة، يجد بعض النفط الثقيل صعوبة في الوصول إلى الأسواق مثلما يحدث مع النفط الثقيل الإيراني. ويساهم نقص المعلومات حول الأرقام الحقيقية للاحتياطي النفطي العالمي ونوعيته وما يتم تخزينه من النفط في الدول المستهلكة مقارنة بما يتم استهلاكه وحتى الأرقام الحقيقية لكمية النفط الذي تنقله السفن، في تأجيج القلق من أن النفط المستهلك منذ اكتشافه قد وصل إلى نقطة رأس المنحنى، وأن العالم قد بدأ يستهلك الاحتياطي النفطي. كما يشير بعض الخبراء إلى أن الجزء المكتشف من النفط هو الجزء الأسهل وصولاً إليه والأقل تكلفة والأقل صعوبة فنياً. ولذلك نجد تقارير إعلامية تتحدث عن أن النفط سينضب خلال 43 سنة في ظل معدلات الاستهلاك الحالية. وتشير بعض التقارير إلى أن ما ينتج اليوم من بترول، 87 مليون برميل، يساوي الطلب عليه عالمياً، وأن القلق من نقص المعروض وزيادة الطلب هو ما يسبب ارتفاع الأسعار. وأن من المرجح أن يصل إنتاج النفط إلى 100 مليون برميل بحلول 2020 ومن ثم يبدأ بالتناقص. ولكن، الإحصاءات تشير إلى أن معدل نمو الطلب على النفط في تراجع مقارنة بالسنوات القليلة الماضية خصوصاً في الدول المتقدمة، وأن رفع الدعم عن المحروقات، خصوصاً في الهند والصين وروسيا، سيساهم أكثر في تراجع هذا المعدل وبالتالي إلى انخفاض أسعار النفط. كما أن هناك الطاقة المتجددة والبديلة للنفط. فبعد أزمة النفط الأولى بدأت معظم الدول الصناعية في العالم في البحث عن طاقة بديلة للنفط لتقليل الاعتماد على النفط، إلا أن تراجع أسعار النفط دفعها إلى التقاعس عن هذا الجهد باستثناء بعض الدول مثل ألمانيا التي حققت نجاحات مثيرة في مجالي الطاقة الشمسية وطاقة الريح، واليابان في مجال الطاقة المستخدمة في السيارات. كما أن أزمة النفط الأولى شجعت التوجه نحو الطاقة النووية. واليوم نسمع عن سيارة في اليابان قادرة على أن تسير مسافة 80 كيلومتر باستخدام لتر من الماء، وهناك حديث عن توليد الطاقة الشمسية في الفضاء وتخزينها، وحديث آخر عن تطوير تكنولوجيا لتقليل التلوث الناتج عن حرق الفحم. ومن ثم هناك مشاريع القرى والمدن الخضراء التي تنتج كهرباءها وتدفئ منازلها وتعمل وسائل نقلها باستخدام طاقة متجددة. وبالطبع سببت بعض محاولات إيجاد طاقة بديلة آثاراً جانبية مثل ارتفاع أسعار الغذاء بسبب إنتاج الوقود الحيوي من الذرة، ولكنها تخضع لتعديلات وأفكار جديدة، فهناك حديث عن توليد الوقود الحيوي باستخدام الطحالب بدلاً من الذرة. وهناك أيضاً الغاز الطبيعي، والذي كان ينظر إليه باعتباره بديل يقلل من أزمة أسعار النفط إلا أن أسعاره ما زالت مرتبطة بحركة أسعار النفط، ويتوقع أن يرتفع سعره إلى ثلاث أضعاف. وقد يكون هناك تباطؤ في مجال الطاقة البديلة بسبب نقص الكوادر المؤهلة لإدارة المؤسسات المتخصصة في هذا المجال، وهذا مجال مفتوح اليوم للتقليل من معدلات البطالة. قد لا تكون هناك حلول جذرية لأزمات ارتفاع أسعار النفط على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل قد تكون فرصة كي يتفق العالم على إيجاد وسائل ترفع من كفاءة استخدام الطاقة، والحفاظ على الطاقة النفطية وتخزينها بدلاً من إهدارها، والبحث عن بدائل للطاقة. وقد تكون فرصة للتعامل مع ما أصاب الأرض من خراب وتلوث واحتباس حراري. ولعل التعامل مع تداعيات الأزمة قد يوجد مساحة أوسع يتحرك فيها العلماء والإعلام الحر والسياسيين المحنكين والضغط الشعبي ومبادرات المجتمع المدني. * كاتب فلسطيني