مهما كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة في الولاياتالمتحدة فإن الدلائل تترى على أن شعوب العالم أجمع والشعب الأميركي تتطلع الى تغيير في سياسات الولاياتالمتحدة يلغي امبراطورية الراديكاليين اليمينيين المحافظين الجدد. والحقيقة هي أن استعادة أميركا لدور يناسب تاريخها وقدراتها في العالم يتوقف على الخروج من مستنقع العزلة والإدانة الذي حشره فيها هؤلاء. انفعل المحافظون الجدد الذين يسيطرون على الإدارة الأميركية الحالية بمرحلة ما بعد الحرب الباردة وقرأوا العالم قراءة مبسطة: أن مصير العالم كان بين معسكرين وأن انتصار أميركا يعني أن تملي شروط ما بعدها، وخططوا لإدارة العالم كأنه مزرعة أميركية. أحداث 11/9 إنما أعطتهم الفرصة والسند الشعبي لتطبيق خطتهم وحوّلوا عملية الدفاع عن النفس المشروعة إلى مشروع هيمنة على جنوب آسيا بدءا بأفغانستان وعلى الشرق الأوسط بدءا بالعراق، من دون أن يحسبوا ردود فعل شعوب المنطقة ولا أن يحسبوا تحولات كبرى في العالم لا تقبل الأحادية الأميركية. وكانت النتيجة أن الحربين على أفغانستان وعلى العراق أطلقتا مقاومة طوقت الولاياتالمتحدة وحلفاءها وفتحت مجالات أوسع للغلو والعنف اللذين تمثلهما"القاعدة"وحلفاؤها. وفي سبيل هذه السياسات الهجومية تكبدت الولاياتالمتحدة خسائر كبيرة في الأرواح وأكبر في الأموال، مما استنزف الاقتصاد الأميركي الذي صار محملاً بديون غير مسبوقة وبعجز في الميزانية السنوية غير مسبوق. هذه النكبة التي حلت بالولاياتالمتحدة عجلت ببروز ظواهر كانت تتمدد في الواقع وتتحدى الأحادية الأميركية. ففي آسيا أدت عوامل كثيرة إلى ظهور المشروع الآسيوي الذي عبرّت عنه دول صغيرة في شرق آسيا ودولتان كبريان هما الصين والهند. وتعزز موقف أوروبا باعتبارها تمثل التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم، التكتل الذي صار يتطلع الى دور أكبر في السياسة الدولية. الظاهرتان الآسيوية والأوروبية تمثلان درجة من الاستقلال عن هيمنة الأحادية الأميركية. الاتحاد الروسي بعد تعثر كبير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ استرداد قوته ويشكل درجة أعلى من الاستقلال عن هيمنة الأحادية الأميركية. وفي أميركا اللاتينية ظهر تيار واسع الانتشار يمثل تحدياً يسارياً شعبوياً للولايات المتحدة. هنالك عوامل داخلية لما حدث في أميركا اللاتينية من تحولات يسارية بقيادة فنزويلا، ولكن ما حدث في كثير من بلدانها ينبغي أن يعتبر ثورة انتخابية ضد الولاياتالمتحدة ويشكل تحديا ممنهجا للإدارة الحالية. ولكن أكثر أنماط التحدي والممانعة للأحادية الأميركية ومن تحالف معها هو الذي برز في العالم الإسلامي، وهو في أعنف صوره ما تمثله الحركات الجهادوية التي تخوض حربا دموية شاملة مع كل الأميركيين، تليها في المواجهة حركات المقاومة التي تركز على مقاومة الاستيطان والاحتلال، وتليها حركات الصحوة الإسلامية التي ترفض الاستيطان والاحتلال والهيمنة الأميركية بأسلوب سياسي مدني، ويليها موقف الدول الإسلامية التي وإن كان كثير منها متحالفاً مع الولاياتالمتحدة يواجه تحالفها توتراً مستمراً حاولت الإدارة الأميركية علاجه بمشروعات سلام غير مجدية مما وضع أصدقاء الولاياتالمتحدة في المنطقة في حرج شديد مع شعوبها. سياسة المحافظين الجدد الإمبريالية أخفقت وأظهرت تراجع القبضة الأميركية في العالم وأدى هذا الإخفاق الكبير إلى شرخ أخلاقي حاد داخل الولاياتالمتحدة بسبب الرفض الواسع لسياسات الهيمنة ووسائلها غير المجدية وغير الأخلاقية. داخل البيت الأميركي منذ الانتخابات التشريعية الأميركية السابقة اتضح أن الرأي العام الأميركي ينشد التحول عن سياسات الإدارة الأميركية الحالية. ومنذ بداية العام الحالي احتدم التنافس على الترشيح للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ومع أن سياسات المرشحين ما زالت غامضة فإن النبرة التي سيطرت على الرأي العام هي نبرة التغيير الغالبة على مواقف مرشحي الحزب الديموقراطي، وقبل أن تحسم المسألة هذا الشهر لصالح باراك أوباما الذي يعاني من حاجز اللون نافسته على تمثيل الحزب هيلاري كلينتون التي تعاني من حاجز كونها امرأة. أما الجمهوريون فحزموا أمرهم قبل الديموقراطيين وقدموا جون ماكين ولكن الفرق بين تأييد الديموقراطيين وتأييد الجمهوريين الآن كبير جداً. ولا شك أن حاجز اللون سيؤثر في وضع المرشح الديموقراطي ضد المرشح الجمهوري الذي لا يعيقه حاجز. الشعب الأميركي أظهر رفضا كبيرا لسياسات الإدارة الحالية ونتائجها: مجلة"نيوزويك"الأميركية 12/5/2008 أوردت أن دراسة لقياس الرأي في أميركا في نيسان أبريل الماضي أظهرت أن 81 في المئة من الأميركيين يرون أن بلادهم تسير في الطريق الخطأ. لذلك صار التطلع الى التغيير هو الشعار الأكثر رواجاً في الحملات الانتخابية الجارية حاليا: * ماكين المرشح الجمهوري هو الأقل شعبية والأقل تجاوبا مع هذا الشعار ولكنه ليس بعيدا عنه: باعد بين موقفه وموقف الإدارة الحالية في بعض المجالات: في مجال الاهتمام بالبيئة عكس موقف الإدارة - وفي مجال إدانة العجز في مواجهة إعصار كاترينا - وفي مجال التعذيب للمتهمين - وفي إدانة إدارة وزير الدفاع السابق رامسفيلد للحرب في العراق. ولكن إدارة بوش هبطت بمستوى التأييد الشعبي للحزب الجمهوري إلى درجة 27 في المئة!. * الحزب الديموقراطي يحظى بشعبية أكبر: أولا: لأنه في خانة المعارضة لسياسات الإدارة الحالية والأقرب الى التعبير عن التغيير. ثانيا: لأنه على ضوء تجربة الرئيس السابق كلينتون يعتبر الأكفأ في إدارة الاقتصاد والأكثر اهتماما بالعدل الاجتماعي. ما بعد فوز أوباما إن بروز موقف أوباما يدل كذلك على عوامل موضوعية أخرى: * الرغبة الشعبية العارمة في التغيير وهو يمثلها بامتياز. * الحماسة الشبابية الواضحة والتأييد الشبابي الواسع حتى بين البيض لأوباما. * الدور المتعاظم للسود في المجتمع الأميركي والدور المهم للنازحين الى أميركا والجيل الأول من الذين اكتسبوا الجنسية الأميركية. * الإحساس الواسع الانتشار لدى كثير من الأميركيين بأن نقطة القوة في أميركا لم تعد"الواسب"WASP أي الخصوصية البروتستانتية والعرقية البيضاء الأنكلوساكسونية، بل صارت التنوع الأشبه بقوس قزح والذي جذب لأميركا كل قارات العالم. هذه العوامل كلها تغذي التطلع للتغيير في أميركا داخليا. ليس أوباما مجرد منافس على سباق الرئاسة الأميركي. إنه يجسد نسيم صبابة يهب على مناخ السياسة الأميركي الآسن. أقواله وكتبه تمثل استنارة فكرية متقدة وبالتالي تتناغم مع تطلعات أميركية إلى أميركا أعدل وأفضل. وتطلعات عالم يعترف بقدرات أميركا ويحزنه توظيف تلك القدرات في خدمة الظلم والظلام. حملته الانتخابية أنشطت ماكينة مبصرة ورائعة الأداء. تمويله لحملته وسّع المشاركة وأشرك محدودي الدخل وأخرج التمويل الانتخابي من حظيرة القطط السمان. حطم أوباما وزملاؤه قوالب السياسة الأميركية المعهودة وتجاوزوا مؤسسة السلطات"The Establishment". نهج يحظى بدعم قوى اجتماعية واسعة النطاق متعددة المشارب. ولهذه الأسباب نفسها فقد أثار ضده القوى المحافظة وآلياتها القوية. هؤلاء أمامهم خياران للتعامل مع هذه الظاهرة الصاعدة: الخيار الأول: الذي استخدموه في الماضي لوأد أمثاله من المجددين هو اغتياله! إن هم فعلوها مع ما يقف وراءه من تطلعات قوى اجتماعية متوثبة، فإنهم سوف يرفعون حدة الاستقطاب في أميركا ويجعلون القتيل شهيداً في سبيل تطلعاتهم ويدفعون بأميركا نحو الحرب الأهلية. الخيار الثاني: هو أن يدجنوه تدجينا يبدد التجديد الموعود. أن يستسلموا لصعوده الى الرئاسة كوجه جديد يطبق سياسات الحرس القديم! التجديد الحقيقي المطلوب أميركيا وعالميا هو أن تصلح أميركا إدارة اقتصادها الذي خرّبه المحافظون الجدد، وأن تتخذ سياسة نفطية عقلانية لا احتكارية، وأن تتخلى عن الأحادية والاستباقية في السياسة الدولية وتتجه نحو التعددية والتوازن الدولي. وأن تدرك أميركا أن مصالحها في الشرق الأوسط في أيدي ضحايا إسرائيل ولا يمكن لاميركا أن تحابي إسرائيل وتكفل مصالحها في آن واحد. أول اختبار لأوباما يحدده موقفه بين التدجين والتجديد هو استقلاله عن اللوبي الإسرائيلي أو استسلامه له، فإن هو استسلم فسوف يجد نفسه يتبع سياسات سلفه شبراً شبراً حتى يدخل جحر الضب الذي حشر فيه سلفه السياسة الأميركية. أوباما وعد حقيقي بالتغيير في أميركا يجسد تطلعات قوى اجتماعية عريضة في أميركا وفي العالم. أميركا على عهده إن نجح في انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني نوفمبر 2008 موعودة بربيع خصيب إن لم يقتل أو يُدجّن. * رئيس حزب"الأمة"ورئيس وزراء السودان السابق