لسنوات خلت كان التعبير الشائع في الحياة الثقافية الفرنسية يقول : "أنا أفضِّل أن أكون على خطأ مع جان بول سارتر، على أن أكون على صواب مع ريمون آرون". كان التعبير مسلياً ويحمل في الوقت نفسه قدراً كبيراً من الاستفزاز، لكنه بعد ذلك صار الى حد كبير مأسوياً. وذلك ببساطة لأن الأخطاء مع سارتر وغيره من المثقفين الذين، لأسباب أو لأخرى، هادنوا التطرف والتوتاليتارية، فسكتوا عن ستالين حيناً، وعن هتلر أحياناً، أدت الى الكوارث التي نعرف، والتي تترجم حتى في أيامنا هذه عبر"مثقفين"يفضلون الوقوف مع الأصوليات والتطرف والإرهاب، لمجرد أن الدعوة الى الديموقراطية مشبوهة، لكون الأميركيين - أيضاً - ينادون بها. في تلك السنوات، كان سارتر بظله وفكره العظيمين مهيمناً على الحياة الثقافية في فرنسا وغيرها، الى درجة كانت معها أخطاؤه مغفورة. أما خصمه الفكري الدائم والذي كان زميل دراسته على أي حال - ريمون آرون، فكان ملعوناً يفضل المفكرون اليساريون أن يتجنبوه حتى وإن كانوا يعرفون انه غالباً - ان لم يكن دائماً ما كان على صواب. في اختصار: كان سارتر على الموضة ولم يكن آرون كذلك. وهذا الأخير احتاج عقوداً وعقوداً وربما سيحتاج أكثر قبل أن يعاد اليه الاعتبار، ولو من باب انه، أواخر سنوات السبعين من القرن الفائت، انضم الى سارتر، بمبادرة من"تلميذ"الاثنين اندريه غلوكسمان، يشارك في تظاهرة إنسانية تناصر الفارين على المراكب من"نعيم"التقدم في فيتنام ما بعد الهزيمة الأميركية هناك. اليوم، إذا كان الاتجاه الفكري العام يواصل تعتيم سارتر، بشخصه أكثر مما يكتبه من مواقف سياسية، فإن هذا الاتجاه ينحو، وإن بخجل الى العودة الى دراسة آرون، الآن وقد مات الاثنان وبقيت مؤلفاتهما. والآن وقد عاد خلط الأوراق الأيديولوجية من جديد، ليكتشف الناس ان الذين وقفوا مع ستالين، ولو لردح يسير من حياتهم لم يكونوا أقل خطراً على الإنسانية من الذين وقفوا الى جانب هتلر. والحقيقة ان ريمون آرون سهّل هذا كله منذ نشر آخر حياته، نصوص مذكراته التي لعل أهم ما فيها ان الرجل وعلى العكس من رفيقه سارتر، أقرّ بأخطاء كثيرة ارتكبها في حياته، ولا سيما بعمله مع لجنة ثقافية تبين لاحقاً انها ممولة من الپ"سي آي إي"وهي اللجنة نفسها التي كان لها في الستينات فرع في لبنان وأصدرت مجلة"حوار"... إذاً، منذ فصل آرون، انطلاقاً من هنا، بين أفكاره وبعض ممارساته، صار في الإمكان دراسة هذه الأفكار على حدة، وبالتالي اكتشاف كم أن هذا الرجل كان على صواب، بل حتى كم كان موضوعياً، إذ لا بد من أن نذكر هنا انه وهو المعادي للماركسية وتطبيقها الشيوعي الستاليني - كتب ذات مرة واحداً من أفضل النصوص التحليلية الشارحة لماركس، معتبرة إياه واحداً من كبار علماء الاجتماع على مدى تاريخ الفكر البشري، ولا سيما انطلاقاً من كتابه"رأس المال". وما لا شك فيه أن هذا يجعلنا قادرين على قراءة موضوعية لآرون، تضع فكره التحليلي خارج السياق الأيديولوجي المعتاد على ازدواجية الأبيض والأسود. أما المحطات الصالحة لقراءة ريمون آرون في هذا الشكل فمتعددة وتحمل عناوين كتب أساسية من كتب القرن العشرين، ومنها"علم الاجتماع الألماني المعاصر"وپ"مدخل الى فلسفة التاريخ"وخصوصاً"أفيون المثقفين"الذي سدد فيه الى سارتر وپ"ماركسية"هذا الأخير طعنات لا تنسى، وپ"أبعاد الوعي التاريخي"وپ"18 درساً حول المجتمع الصناعي". غير أن الكتاب الذي لا يزال يشكل المدخل الأفضل والأسهل لولوج العالم الفكري لآرون فيبقى"الديموقراطية والتوتاليتارية"الذي أصدره عام 1965، ليلخص فيه تقريباً معظم أفكاره. ينطلق ريمون آرون في"الديموقراطية والتوتاليتارية"من نظرة الى هذه الأخيرة استقاها من المفكرة الألمانية - الأميركية حنة آرندت، التي كانت كتبت واحداً من أفضل نصوص القرن العشرين عن"التوتاليتارية"أو الحكم الشمولي الذي طبع في القرن العشرين أنظمة مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي الستاليني وأشباههما. ومنذ مدخل كتابه يعطي آرون تعريفاً عملياً للتوتاليتارية، يتألف من خمس سمات هي: 1- إن الظاهرة التوتاليتارية تسود في كل نظام يعطي حزباً ما، احتكار النشاط السياسي في البلد. 2- يكون الحزب الواحد هذا، مسيّراً ومسلحاً بأيديولوجية يضع بين يديها سلطة مطلقة تجعلها بالتالي، الحقيقة الرسمية الوحيدة للدولة المعنية. 3- والدولة، كي تنشر هذه الحقيقة الرسمية، تحتفظ لنفسها باحتكار حصري مزدوج: احتكار وسائل التسلط القوة من ناحية، واحتكار أدوات الإقناع من ناحية ثانية... وبهذا يكون مجموع أدوات الاتصال والتواصل، والراديو والتلفزيون والصحافة تحت إدارة وسيطرة الدولة ومن يمثلونها. 4- في هذا الإطار تكون الغالبية العظمى من النشاطات الاقتصادية والمهنية خاضعة للدولة، وتصبح، في شكل أو في آخر، جزءاً من هذه الدولة. وبما أن الدولة هنا، تكون غير قابلة لأن تفصل عن أيديولوجيتها يكون من المنطقي أن تتلون غالبية النشاطات الاقتصادية والمهنية بلون الحقيقة الرسمية. 5- وهنا بما أن كل شيء يصبح جزءاً من نشاط الدولة خاضعاً لها، وبما أن كل نشاط لهذه الدولة يكون خاضعاً للأيديولوجيا، يصبح من المنطقي أن كل خطأ يرتكب في مجال النشاط الاقتصادي أو المهني، يصبح في الوقت نفسه خطأ أيديولوجياً. ومن هنا، بالاستناد الى هذا كله، يسود نوع من التسييس، أو التحويل الى الصعيد الأيديولوجي لكل أخطاء ممكنة يرتكبها الأفراد، ما يستتبع، بالناتج، إرهاباً يكون في الوقت نفسه بوليسياً وأيديولوجياً يمارس ضد هؤلاء الأفراد. وهنا يختتم آرون قائلاً إن"هذه الظاهرة تكتمل تماماً، حين يحدث لكل هذه العناصر أن تجتمع وتتكامل". طبعاً لا يمكن القول هنا إن هذا التحديد والتعريف للظاهرة التوتاليتارية، كان جديداً في ذلك الحين، لكن أهميته في كتاب ريمون آرون كانت تكمن في أن الكتاب تمكن من توظيف هذا التوصيف، في زمن كان مثقفون فرنسيون وأوروبيون كثر، يفصلون - بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي - بين ما يسمونه ظاهرة ستالين، وبين المنظومة الحزبية الحاكمة. من هنا جاء آرون، وبعد أن كان قد أصدر كتابيه المهمين"18 درساً..."وپ"صراع الطبقات"ليوضح أن الظاهرة لا يمكن أن تعزى الى فرد واحد مهما كانت ديكتاتوريته وعنفه ودمويته، مفسراً، ضمنياً، كيف أن التخلص من ستالين جسدياً بالموت، ثم سياسياً عبر تقرير خروتشيف الى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي - 1956 لم يبدل الأمور كثيراً في وطن الاشتراكية الأكبر. وآرون رسم إذاً صورة المنظومة بالتوتاليتارتية، ليقارنها مع الديموقراطية الدستورية التعددية، واصلاً الى ربط كل نظام ببنيته التحتية الاجتماعية، مستخلصاً دروساً ربما كانت"غريبة"وپ"طارئة"في ذلك الحين، لكن العقود التالية أثبتت صحتها. خصوصاً أن آرون أقام صرح درسه كله، في مجال السوسيولوجيا السياسية بخاصة، على ازدواجية تناحرية أساسية تقوم على تعارض المنافسة الحرة/ الاحتكار"الدستور/ الثورة"التعددية/ الاطلاق البيروقراطي أي، في اختصار تعارض دولة الحزب ودولة المواطن. ولد ريمون آرون عام 1905، ليرحل في العام 1983 في باريس، وهو اعتبر فيلسوفاً وعالم اجتماع، وعالم سياسة، درّس في الجامعات الكبرى، كما كتب تعليقات سياسية في كبريات صحف زمنه ولا سيما في"الفيغارو"وپ"الاكسبرس"، وعرف بصداقته مع الجنرال ديغول، على رغم انتقاده له في مناسبات عدة، كما عرف بسجال حاد خاضه مع عالم الاناسة كلود ليفي ستراوس والاثنان يهوديان، وقف فيه آرون يومها، في شكل مطلق الى جانب إسرائيل، وحتى على الضد من مواقف الجنرال ديغول، فيما وقف ليفي ستراوس موقفاً منتقداً للسياسات الإسرائيلية، رافضاً فكرة أن عليه، لأنه يهودي، أن يكون إسرائيلياً أكثر منه فرنسياً. [email protected]