اذهبي الى الاونيسكو الطابق الأول، هناك معرض، قال لقمان. عمّاذا؟ سألت. شيء حول المفقودين، تجدر رؤيته. اذهبي لتري. وذهبت. لم تكن لدي فكرة عماذا او كيف سيكون هذا المعرض، وعندما دخلت القاعة الكبرى في الطابق الاول من الدرج العريض الذي على يسار القاعة فوجئت بوجوه تطالعني... بمتوالية من الوجوه، مصفوفة بشكل متتابع وموزعة في القاعة على نفس العلو من الجدران. معرض للوجوه، وجوه متعددة، متنوعة تشدك عن بعد وكأنها تسألك لماذا هي معلقة هنا؟ هل هي تقليعة فنية تريد استعراض نماذج من الوجوه اللبنانية لحقبة ما؟ وتسأل نفسك كيف وزعت هذه الوجوه المختلفة وبأي نظام؟ هل بحسب نظراتها: حزينة، فرحة، متفائلة، قلقة او متأملة؟ سني عمرها: شابة وفتية ام كهلة ومعمّرة، جميلة ام اقل جمالاً، وجوه وجوه وجوه اكثر من 500 معلقة تنتظر اعترافا بانها كانت هنا ذات يوم. وجوه طويلة، مستديرة، باسمة، عابسة، حالمة، تنظر اليك او الى نقطة اخرى بعيدة. وجوه اعتنت بهندامها وبكيفية ظهورها للكاميرا واعتنت بشعرها، صففته او تركته على طبيعته، قصرته او اطالته او اطالت الشاربين او نزعتهما. بينهم شاب اعتنى بوضع احمر شفاه واضح وجليّ مع احتفاظه بمعالم وجهه الاخرى طبيعية مثل باقي الذكور. وجوه للتأمل تحمل أسماء بعدد لا يخطر على بالك ومنها ما تينع به لأول مرة... أسماء تتبع تسلسلا ابجديا: عفيش، عون، عوض، عواد، عياد، الخ... وهكذا تتابع بحسب تتابع الحروف الابجدية.هناك ايضا اثنتا عشر امرأة موزعات بين مئات الرجال. وجود رمزي لنساء تحاول اكتشاف جمالهن وما بداخل رؤوسهن، وهن هنا لكي يكسرن القاعدة التي تقول بعدم التعرض لهن. واحدة منهن تجاور صبياً، جورجيت العوّ وبقربها سامي العوّ. نظرت طويلا لا بد انه ابنها. حسنا قلت لم تعش لكي تقضي بقية حياتها بانتظار عودته او التأكد من هلاكه. انه البؤس والمرارة والصدفة ان تكون معلقا هكذا بالتتابع وتتجاور صورتك مع صورة وجه آخر لا يجمعك به في غالب الاحوال شيء سوى انه يحمل اسما يبدأ بنفس حرف اسمك. يرتبطان هكذا في المكان بعد ان كان ربط بينهما المصير نفسه: الاختفاء والفقد وترك عالم لا متناه يتكون من أمكنة وأشخاص ومهام وارتباطات ومواعيد وأعمال ومشاعر... يصير الواحد صورته المعلقة فقط ووجها احيانا نعبره بسرعة واحيانا اخرى يستوقفنا ويشدنا لنتأمله بسبب تسريحة او نظرة او مجرد تعبير او لا ادري ماذا... تحمل الوجوه تاريخ ولادتها واحيانا يغيب هذا التفصيل وتحمل تاريخ اختفائها ايضا. تواريخ متقاربة لحقب اتسمت بموجات عنف بالغ. عنف مجاني، وربما له ثمن جعل احدهم او مجموعة من المقاتلين تسأل وجها او اكثر عن اسمه وهويته ومن اين هو ويجعله حظه العاثر? او حظها نعم فللنساء نصيب- تمر في هذه اللحظة بالذات من هذا المكان: معبرا او حاجزا او طريقا عادية وتصادف انها تحمل هوية لا تلائم الواقف على المعبر، هوية معادية لها: دين او طائفة او مذهب تجب مقاتلته ومحاربته والقضاء عليه. او هو وجه لم يحمل هذه الهوية وربما اخفاها عن قصد ربما كي لا يتعرض لما تعرض له بالضبط. وربما شكل هذا الوجه الذي صار ضحية لم يعجب الواقف على الحاجز فشكل له تحديا ما واصابه في بعض مشاعر نقص او تسبب بغضبه لكلمة فائضة لفظها او لنظرة او لصمت فسر عنادا ومواجهة. وجوه مختلفة علقت هنا لكي نعلن عليها الحداد الذي لم يعلن حتى الآن"لأننا نتماهى مع مفقودينا للظلم لذي وقع عليهم فنرفض موتهم ونعجز عن الحداد عليهم. وبدلا من ذلك يتم نكران الواقع، نكران الخسارة:"مفقودي لم يمت، ربما سوف يعود". لن يمكن دفنه قبل التأكد من موته اولا. ويظل اختفاؤه هكذا مرفوضا ويظل غياب نظرته وصوته وحنانه والدعم المتبادل الذي كان موجودا وغياب المستقبل المشترك والمشاريع المتخيلة القادمة... هناك عجز تام عن القدرة على قبول غياب كل ذلك. ما يزيد الامر صعوبة هو الندم، الندم على كل سوء فهم او تمني السوء المتخيل للمخطوف وتعذيب النفس بتقليب الاحتمالات التي كان يمكن ان تساعد على عدم فقدانه: كان يمكن ان يظل الآن حاضرا معي لو أخّرت ذهابه قليلا، لو جعلته يؤجله، لو حذرته، لو كنت معه، لو منعته من الذهاب، لو ، لو... لن يتمكن الاهل من القيام بكل ذلك طالما انهم لم يعرفوا مصير مفقوديهم ولم يتأكدوا من موتهم ومعرفة مكان رفاتهم. لن يتمكن الاهل من القيام بعملية الحداد الضرورية لتخطي الألم وسوف تتجمد هذه الوجوه بوضعها الحالي. ستبقى على الحالة التي تمثلها صور هذه الوجوه ولن يتمكن الاهل من تصور شيخوختها او تغير هيأتها. سوف يتعطل الخيال هنا ويتجمد محافظا على تمثل الشخص على هذه الصورة الازلية. ومن هنا أهمية الكشف عن المقابر الجماعية لكنْ بعيدا عن المزايدات وبشكل جماعي يطال كل الفئات والاحزاب والتيارات. فالجميع مشترك في هذه الجرائم الحربية من دون استثناء. يجب ان يمر وقت لكي يتحولوا ووجوههم الى جزء من التاريخ وليس من الذاكرة الحية المتحولة. ذلك ان مادة التاريخ هو الزمن ومروره وفي هذه الحالة هناك تجميد لهذا الزمن واحتجاز له على شكل صورة لشخص لن يطرأ عليه اي تحول. هنا يتم اكثر اقتراب الذاكرة الفردية من الذاكرة الجماعية. فما حصل، حصل بسبب الاضطراب الجماعي والاجتماعي الذي ساد في تلك المراحل والألم الذي مهما تصورنا انتماءه الى الجماعة يظل فردياً بدرجة كبيرة لكن اجتماعه وتراكمه كما هذه الوجوه يجعله ألماً عاما وألماً يطال مجموعة كبيرة فتوحد بينها الامها الفردية نفسها. ويتحول هنا التاريخ الفردي الى جزء فاعل من التاريخ الجماعي وتصبح وجوههم مسلكا للتواصل الاجتماعي وجعل حدث اختطافهم الحامل لهذه الذاكرة لكي لا يغيب عنا ان هذا حصل واننا ندينه ونعترف بخطأ حصوله ولكي نمنع تجدد اسبابه مرة ثانية. ومعرض الوجوه هذا هو المخزن الذي نخزّن به ذاكرتنا كي لا تخوننا مرة اخرى وتخرج عن حدود مداركنا فتضبط افعالنا عبر تأطير هذه الوجوه التي سوف تظل تطل علينا كي تقول: حاذروا الخطأ مرة جديدة. ففقدان الذاكرة لا يعبر عن اضطراب على المستوى الفردي فقط، بل هو ايضا يصيب الجماعات ويتسبب باضطرابها وباضطراب هويتها الجماعية. تعيش الذاكرة لحظات تطفح فيها وتصبح فائضة عن اللازم وتمر بلحظات ضمور، لقد سارعنا الى تناسي ضحايانا ولم نعتذر منهم مع ان هناك فيضا وطفحا لهؤلاء، فلنحتفل بذكراهم ونعترف بهم ضحايا عبر تذكرهم كي يرقدوا بسلام ونكمل حياتنا بسلام ايضا. ويشير بعض الباحثين الى اهمية الانتقال من الذاكرة الشفهية الى الذاكرة الكتابية عبر تنفيذ لوائح للتذكر، عمل جداول ولوائح بنظام معين تطال الكلمات والمفاهيم والحركات. نحن هنا بحاجة الى لوائح للوجوه، فهذا ليس مجرد اضافة تقنية بسيطة على مستوى عمل الذاكرة لكنه يسمح بالانتقال الى اعادة موضعة جديدة للذاكرة عبر تفكيكها واعادة تركيبها مرة اخرى. انها فعل تربوي مهم لكي نستخلص درسنا التاريخي. من هنا ضرورة إقامة متحف دائم يساعدنا على تذكر كل جرائم الحرب التي ارتكبت والمعاناة التي نتجت عنها. * كاتبة لبنانية