موضوع هذا البحث هو النقود الصليبية والمملوكية التي شاعت وراجت واستعملت أبان فترة سيطرة الصليبيين والمماليك وما يعنينا هو تلك النقود المعاصرة للفاطميين والأيوبيين والتي سّكها الصليبيون أثناء استقرارهم في المنطقة، كتلك التي ضربها البنادقة من الذهب وعرفت باسم by2antini saracenati أي العملة البيزنطية العربية، وتعتبر هذه النقود أقدم عملة ضربها اللاتين وعليها نقوش عربية وآيات قرآنية وكتابات تشير إلى الرسالة المحمدية مع التاريخ الهجري، واستمر التعامل بها حتى القرن الثالث عشر ميلادي على رغم احتجاج البابا أنبوست الرابع، ومنذ فقد الفاطميون أملاكهم في فلسطين تحول بلدوين الثالث ملك بيت المقدس إلى غزو مصر سنة 511 هجرية، وحوالىهذا الوقت ضرب الفرنجة نقودهم بعد أن كانوا أصدروا عملة زائفة باسم الخليفة الآمر لدين الله لمدة 3 سنوات، ويوجد بعض هذه النقود في مجموعة دار الكتب المصرية وهي تحمل كتابات النقود الفاطمية. ويحمل بعض هذه النقود اسم دار السك المعزية بالقاهرة، ومن الحملات الصليبية الرئيسة التي ارتبطت بظهور نقود صليبية في مصر تلك الحملة المعروفة بالخامسة التي شنها الصليبيون عام 1231 لتحطيم مصر كمركز للقوة الإسلامية وقاد هذه الحملة جان برين الذي تمكن من الاستيلاء على دمياط في عهد الملك الكامل. وبذلك أصبح الصليبيون أصحاب السلطة في المدينة مدة عشرة أشهر من 5 تشرين الثاني نوفمبر عام 1219 إلى 7 أيلول سبتمبر عام 1220 وفي هذه المدة ضربوا نقوداً خاصة بهم للتعامل بها في أسواق دمياط، وتحمل هذه النقود اسم دمياط باللاتينية حول رسم الصليب داخل دائرة، كما أن هناك مجموعات نادرة أخرى من النقود الصليبية في الأقاليم السورية الساحلية عرفها العالم من خلال ما كتبه فوجيه ولافوا وبيانكار وشلوميزغر والمجموعات التي درسها هؤلاء العلماء من نوعين رئيسيين، أما النوع الأول فهو نقود ضربها الصليبيون قبل عام 1250 تقليداً للنقود العربية الفاطمية بكتاباتها وخصائصها الإسلامية، أما النوع الثاني فهو نقود صليبية بعبارات مسيحية عربية ضربت في عكا بأمر القديس لويس عام 1250 وما بعدها، وهي تقليد للنقود الأيوبية. المعمودية واحدة، وبعض هذه النقود دنانير من الذهب وبعضها دراهم من الفضة وتعتبر النقود الفضية نادرة جداً ويضم متحف الفن الإسلامي نماذج منها، ويلاحظ على كتابات النقود الصليبية التي ضربت تقليداً للنقود الأيوبية المعاصرة، أن طرازها يسهل تمييزه عن النقود الإسلامية الأصلية، وربما سك الصليبيون هذه النقود في دار سك صليبية أو في دار سك البندقية أو غيرها من المدن الإيطالية، وبعض الدراهم الصليبية التي تحمل تاريخ عام 641 ه، يذكر اسم الخليفة العباسي المنتصر بالله، وكثير من الدراهم الصليبية التي ضربت تقليداً لدراهم الصالح اسماعيل يذكر أنها ضربت في دمشق عام 644 ه، وتحمل أيضاً ألقاب المنتصر مع أن المنتصر مات قبل ذلك بأربع سنوات، كما أن الصالح إسماعيل كان ترك دمشق للصالح أيوب عام 643 هجرية وأصبح من غير المعقول أن تضرب دراهم دمشق بعد هذا التاريخ باسم الصالح إسماعيل. ويغلب على الظن أن مثل هذه الدراهم التي تحمل أسماء وتواريخ خاطئة ضربها الصليبيون في أوروبا على يد عمال سوريين من أسرى الحروب الصليبية، إذ هم أقدر على الكتابة العربية من غيرهم من العمال الأوروبيين. ولم يكن الضرّاب المسلم قد علم وهو في الأسر بموت الخليفة أو بترك الصالح إسماعيل لدمشق فاستمر يضرب النقود الصليبية بتواريخ متتابعة لا تمشي مع التغيرات السياسية في الشرق العربي، وفي ميدان النقود لا يمكن إغفال النشاط الناجم عن حركة الحجاج والجيوش الصليبية بين أوروبا والشرق والعراق، فقد ساعد هذا النشاط في تقدم التجارة الدولية إلى حد لم يكن معروفاً قبل الحروب الصليبية، وتطلبت الظروف المالية الجديدة تداولاً أسرع وأعظم للعملة، فتأسست البيوت المالية في جنوى وبيزا وانتشرت فروعها وأعمالها في شرق البحر المتوسط وصارت لبعض الهيئات العسكرية الصليبية في قبرص مصارف للإيداع والتسليف كما استعملوا الصكوك والصك كلمة عربية من أصل فارسي أخذها الأوروبيون عن العرب فأصبحت في الإنكليزية شيكاً. أما النقود المملوكية، فيبدو أنه بعد تولي الملكة شجرة الدر التي لُقبت بأم الخليل، خُطب لها بالسلطنة بالقاهرة، وسائر الديار المصرية ونقش لقبها على النقود مصحوباً باسم الخليفة العباسي المستعصم بالله ولم تنقش شجرة الدر اسمها صراحة على الدنانير والدراهم التي ضربتها، كما أن نقودها النحاسية لم يصل إلينا منها قطعة واحدة، فأصبحت نقودها بوجه عام من أندر النقود الإسلامية في العالم، ولا يوجد منها غير دينار واحد في المتحف البريطاني وآخر في إحدى المجموعات الخاصة بالقاهرة مع أربعة دراهم أخرى من الفضة، ويظهر على دنانيرها كتابات بالخط النسخي نصها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وفي مركز الوجه، أم المؤمنين المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور أمير، وعلى هامش الظهر بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالقاهرة سنة ثمان وأربعين وستمئة. وفي مركز الظهر، الإمام المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله أمير المؤمنين. ولكن ما لبث المماليك أن خلعوا تلك السلطانة الماهرة بعد شهرين من توليها وأقاموا مكانها زوجها المعز أيبك بعد أن جاءهم كتاب الخليفة المستعصم العباسي ينعي عليهم إقامة امرأة في السلطنة. ويقول:"إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير إليكم رجالاً"، ويتضح من نقود أيبك أنه لم يسجل عليها اسم الطفل الأيوبي الأشرف الذي جاء به إلى العرش إرضاء للأيوبيين في سورية بل قَبِل أيبك أن يحكم البلاد باسم سيده الملك الصالح وفاء له، ولا يفصل بين الاسمين غير شارة من هيئة الرقم 7 ربما للدلالة على أحد الشارات، التركمانية للمعز أيبك. وكتب قطز الذي تولى السلطنة عام 1259م على نقوده الذهبية والفضية، الملك المظفر سيف الدنيا قطز وتجدر الإشارة إلى أن النقود المملوكية لم تستقر على حال طوال السنوات العشر الأولى من حكم المماليك البحرية، بسبب عدم استقرار الحال السياسية في الشرق العربي واجتياح المغول لبغداد، ولكن السلطان الظاهر بيبرس وبعد توليه الحكم عام 658 ه، ضرب الدنانير والدراهم الظاهرية بالقاهرة والإسكندرية وسجل عليها عبارات كانت صدى لأحداث مهمة في تاريخ العالم الإسلامي وكان لقبه الجديد قسيم أمير المؤمنين. وهكذا سجلت نقود مصر المملوكية انتقال الخلافة إليها منذ عهد الظاهر بيبرس فحملت اسم الخليفة العباسي المقيم في بغداد حتى إذا استقرت نقود المماليك في البلاد نهائياً لم يعودوا ينقشون أسماء الخلفاء العباسيين المعاصرين على نقودهم، وأصبح الغالب في عهد أسرة قلاوون أن يحمل وجه العملة اسم السلطان وتاريخ ومكان الضرب بالخط النسخي المملوكي بينما يحمل الوجه الثاني عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، أو عبارة وما النصر إلا من عند الله لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق. وتتألف النقود المملوكية كغيرها من النقود العربية من دنانير الذهب ودراهم الفضة والفلوس والنحاس ومع أن الذهب ظل حتى أوائل عصر المماليك قاعدة النقد، إلا أنه خضع لتغييرات متعددة من حيث العيار والوزن والحجم، فضلاً عن تحديد سعره في ضوء قانون العرض والطلب. أما لفظ درهم فقد استعمل ليعبر وأحياناً عن المدلول الأصلي للفظ وهو النقود الفضية أحياناً أخرى للدلالة على النقود النحاسية وزناً أو عدداً، وليس من الضرورة أن يلتزم لفظ درهم وزناً محدداً شرعياً للنقود الفضة أو النحاس، ولكنه استعمل ليشير إلى وحدة نقدية مختلفة القيمة كما كانت الحال في النقود الاسمية التي أطلق عليها اسم درهم، والظاهرة الرئيسة في ما يتعلق بالنقود المملوكية أن الدراهم الفضية تناقصت حتى صار ينادى عليها في الأسواق للمزايدة وغلبت عليها الفلوس النحاسية، ووجدت الأسواق المصرية حاجتها من النقود الفضية في أعداد محدودة من الدراهم البندقية نسبة إلى مدينة البندقية والدراهم النورونية نسبة إلى الأمير نوروز نائب دمشق فتعامل الناس بها، ثم أصبحت النقود المتوافرة في الأسواق فعلاً هي الدنانير الذهبية والفلوس النحاسية.