أسفرت معركة الزاب التي وقفت سنة 132 هجرية عن هزيمة الأمويين وعن انتصار مشهود للعباسيين عليهم. وبذلك انتقلت السلطة الى العراق، غير أن ذلك لم يؤثر في وضع النقود، إذ بقي الدينار الذهب يُضرب في مصر ودمشق فترة طويلة بالعبارات نفسها التي سُجلت على الدنانير الأموية في ما عدا تاريخ الضرب وذلك من سنة 198 هجرية حين بدأت تظهر أسماء دور السك على النقود الذهب للمرة الأولى في عهد الخليفة العباسي المأمون. فظهر إسما مصر والعراق على الدنانير ضرب سنة 199 هجرية، وتوزع ضرب الدنانير في مدن عدة حتى أصبح هذا النوع من النقود يُضرب في أهم حواضر الولايات الاسلامية بعد سنة 212 هجرية. ولا يستند التمييز بين الدنانير التي ضربت في مصر وبين غيرها من دنانير الولايات الاسلامية الى تاريخ ظهور "مصر" كمدينة للضرب للمرة الأولى على الدينار العباسي بل يستند الى تلك الأسماء التي ظهرت قبل ذلك على الدنانير المصرية. ومنذ عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد 170 - 193 حدث تطور رئيسي في نظام النقود العربية، فقد أمَرَ هذا الخليفة بأن يكتب اسمه واسم ابنه الأمين على النقود الذهبية من الدنانير كما وهب الحقوق عينها لوزرائه والولاه وعمال المال، وتناول "المقريزي" هذا الموضوع حيث قال "وهارون الرشيد أول خليفة ترفع عن مباشرة العيار بنفسه وكان الخلفاء من قبله يتولون النظر في عيار الدراهم، والدنانير بأنفسهم". وقد كان لهذا النظام الاداري الجديد صداه في النقود المصرية، فأصبح ضرب الدنانير من حق الولاة والعمال، وأول من تمتع بهذا الحق "علي بن سليمان بن علي العباسي" الذي تولى أمرة مصر من "169 ه - 171 ه" وتحمل دنانيره معظم العبارات الاسلامية التي تميزت بها الدنانير الاموية. وعلى هذا فإن الدنانير وهي النقود الذهب الرئيسية في مصر التي ضربها الولاة من قبل الخلافة العباسية أو سكها ثوار وزعماء طامعون في مصر، لم يختلف طرازها العام عن النقود العربية التي ضربها الخلفاء في بغداد. أما التطور الذي حدث للدنانير المصرية في العصر العباسي فيتلخص بما يأتي: 1 - ظلت النقود العربية في مصر تتبع في خصائصها النقود العباسية التي كانت في الواقع استمراراً للطراز الأموي حتى عهد هارون الرشيد. 2 - منذ عهد هارون الرشيد ظهر اسم الخليفة على النقود الذهب وتمتع الولاة في مصر وبعض عمال الخراج بحق ضرب الدنانير فظهرت أسماؤهم عليها منذ سنة 170 هجرية. 3 - على يد المأمون أضيفت الى كتابات الدنانير بعض الآيات القرآنية في هامش اضافي "لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصرالله" كما أُكملت بعض العبارات المقتبسة من القرآن الكريم وأُضيفت البسملة كاملة "بسم الله الرحمن الرحيم" الى عبارة الضرب وتاريخه. 4 - في عهد المأمون ظهرت "مصر" كمكان للسك مُسجلة على الدنانير منذ سنة 199 هجرية. وفي فترة ظهور الدويلات السياسية التي قامت على أكتاف الدولة العباسية وعاصمتها بغداد، حرص قادة تلك الدويلات على إصدار النقود كمظهر مهم لاستقرار دولتهم، ولنا في هذا المجال النقود الأحمدية الطولونية التي أصدرها أحمد بن طولون، فضرب نقوداً طولونية في ظل إشراف صوري من الخلافة العباسية، وهذه النقود هي نفسها النقود العباسية التي ضربت باسم الخليفة المتوكل وابنه المعتز والخليفة المعتمد وابنه جعفر الملقب بالمفوض، وظلت هذه الدنانير الذهب متداولة في مختلف الأقاليم الطولونية حتى سنة 266 هجرية حين ضرب أحمد بن طولون دنانيره الأحمدية بعد أن نجح في توحيد مصر والشام. أما في ما يخص هذه الدنانير الأحمدية، فهي كانت تحمل اسم أحمد بن طولون، ولعل هذا هو أبرز ما يُضفي عليها اسم الدنانير الأحمدية ولم يحذف ابن طولون اسم الخليفة المعتمد على الله من هذه الدنانير لأنه لم ينكر عليه شرعية خلافته بقدر ما أكد لنفسه حقه في سكِّ النقود باسمه. وتنحصر الدنانير الأحمدية في ما بين 266 و270 هجرية على التوالي، وهي دنانير تُشير الى دور سك مختلفة بعضها ضُرِب في مصر والآخر ضرب في الرافقة ودمشق. وظلّ الدينار الأحمدي نموذجاً اتبعه خلفاء ابن طولون فلم تحدث تعديلات جوهرية في عيار الدينار الأحمدي أو نصوصه غير كتابة اسم الحاكم الطولوني المعاصر مصحوباً باسم الخليفة العباسي. وفي العهد الفاطمي، ابتدعت الدولة الفاطمية في مصر نقوداً تذكارية من معادن وأحجام مختلفة بقصد الإنعام بها على الشعب في بعض المواسم والأعياد. ولعل العباسيين هم أول من ضرب مثل هذه النقود لتوزيعها كعطايا من الخلفاء والأمراء ونثرها على الناس. ويشير المقريزي في "إغاثة الأمة" الى كثير من الدنانير العباسية في عيد النيوروز والمهرجان ومن بينها دنانير "جعفر بني يحيى"، كما ضرب العباسيون دنانير سُميت بدنانير الخريطة الخزانة للإنعام بها على المغنين وغيرهم. واقتدى الفاطميون بهذه السُنَّة للدعاية لأنفسهم وكسب مودة الشعب وولائه، وابتدع الفاطميون نوعاً من النقود التذكارية الذهب، صغيرة الحجم خفيفة الوزن تُسمى "خراريب" جمع خروبة 194،0 غرام، كما كانت تضرب نقود تذكارية أخرى ب"رسم التفرقة" في أول كل عام تسمى "الغرة" وهي مجموعة من الدنانير والرباعيات والدراهم المدورة تُضرب بأمر الخليفة في العشر الأخير من شهر ذي الحجة. ويحدثنا "المقريزي" في "خططه" أن جملة المبلغ الذي ينعم به من هذه الغُرَّة أول العام "من الدنانير والرباعيات والقراريط ما يقرب من ثلاثة آلاف دينار" فيقبلها الوزراء والأمراء وأرباب المراتب من الخليفة على سبيل التبرك. وفي العصر المملوكي تتابع إصدار النقود، ويكفي أن نعرف أن نقود مصر المملوكية قد سجلت انتقال الخلافة اليها منذ عهد "الظاهر بيبرس" فحملت اسم السلطان بصحبة اسم الخليفة العباسي المقيم في القاهرة حتى اذا استقر نفوذ المماليك في البلاد نهائياً لم يعودوا يعنون بنقش اسماء الخلفاء العباسيين المعاصرين على نقودهم، إذ أصبح الغالب في عهد أسرة قلاوون هو أن يحمل وجه العملة اسم السلطان وتاريخ ومكان الضرب بالخط النسخي المملوكي بينما يحمل الوجه الثاني عبارة نصها "لا إله إلا الله محمد - رسول الله أرسله بالهدى - ودين الحق ليظهره على - الدين كله" أو عبارة "الله - وما النصر إلا من عند - الله لا إله الا الله محمد - رسول الله أرسله - بالهدى ودين - الحق". وتتألف النقود المملوكية كغيرها من النقود العربية من دنانير الذهب ودراهم الفضة والفلوس النحاس، ولكن على رغم أن الذهب ظل حتى أوائل عصر المماليك، أي في عهد البحرية، هو قاعدة النقد، وعلى أساسه قدرت وحدات النقد الأخرى، إلا أنه خضع لتغييرات متعددة من حيث العيار والوزن والحجم، فضلاً عن تحديد سعره في ضوء قانون العرض والطلب وتحت رغبة السلطان في الكسب والاثراء عن طريق ضرب النقود الذهب لحسابه الخاص. أما لفظ "درهم" فقد استعمل ليعبّر أحياناً عن المدلول الأصلي للفظ وهو النقود الفضة، وأحياناً أخرى للدلالة على النقود النحاسية وزناً أو عدداً، وليس من المحتم أن يلتزم لفظ "درهم" وزناً محدداً شرعياً للنقد الفضة أو النحاس ولكنه استعمل ليشير الى وحدة نقدية مختلفة القيمة كما كان الحال في النقود الاسمية التي أطلق عليها "درهم معاملة". والظاهرة الرئيسية في ما يتعلق بالنقود المملوكية أن الدراهم الفضة تناقصت وغلبت عليها الفلوس النحاس ووجدت السوق المصرية حاجتها من النقود الفضة في أعداد محدودة من الدراهم البندقية والدراهم النوروزية نسبة الى الأمير نوروز نائب دمشق فتعامل الناس بها وحسن موقعها ليعد العهد بالدرهم ومن ثم أصبحت النقود المتوافرة في الأسواق فعلاً هي الدنانير الذهب والفلوس النحاس. وفي عهد الدولة العثمانية، وعلى رغم ان العثمانيين أبادوا الدولة المملوكية وأزالوا من كتابات النقود العربية شهادة التوحيد والرسالة المحمدية والآيات القرآنية فحلت مكانها الألقاب الفخرية للسلطان العثماني مثل: ضارب النضر، صاحب العز والنصر، في البر والبحر أو سلطان البريي بر آسيا وأوروبا وخاقان رئيس البحرين المتوسط والأسود إلا أنهم على رغم هذا كله لم يأتوا بأية اصلاحات لأنظمة النقود، بل إن قيمة العملة العربية أصبحت عُرضة للتغيير المتتابع حيث "يمكننا أن نُعدد ما لا يقل عن 24 تعديلاً مختلفاً لسعر المبادلة، وتحديد قيمة العملة الذهب والفضة والنحاس، وذلك كله في أثناء حكم أول الولاة العثمانيين". ويمكن أن تعتبر النقود المصرية منذ فتح السلطان سليم البلاد نقوداً تركية بكتابات عربية، فقد ارتبطت أشكالها وقيمها بالأوامر العثمانية حتى قوالب السك نفسها التي تضرب بها هذه النقود كانت ترد من استانبول وتسلم الى أمير الضربخانة المصرية لسك النقود العربية عليها، فقد حدث مثلاً أن ضرب السلطان سليم فلوساً أشار اليها ابن أياس في كتابه "بدائع الزهور" بأنها في "غاية الخفة فوقف حال الناس بسبب ذلك وحصل لهم الضرر الشامل وغلقت الدكاكين". ويعتقد الأب أنستاس الكرملي ان أول نقود العثمانيين في مصر هي "الخيرية" التي ضربت من الذهب وأطلق عليها هذا الاسم نسبة الى "خاير بك" أول ولاتهم في مصر، ولقبها العامة باسم "خيرية". والواقع أن السلطان سليم ضرب أولاً نقوداً ذهباً أطلق عليها اسم "سلطاني" أو "أشرفي" وهو امتداد للفظ "الأشرفي" الذي ألِفَهُ الشعب منذ عهد المماليك. أما "خيرية" فقد أطلقت على نقد ذهبي آخر ضربه الأتراك منذ عهد السلطان محمود الثاني وسمي بهذا الاسم نسبة الى تعبير "تنظيمات خيرية" الذي بُدِئ باستعماله في عهد هذا السلطان. وقد ضرب السلطان سليم كذلك نقوداً ذهباً أطلق عليها "زر محبوب" أي "الذهب المحبوب" نقشت على وجهها الكتابات العربية الآتية: ضارب النضر/ صاحب العز والنصر/ في البر والبحر/ سلطان سليم شاه بن/ بايزيد خان عز نصره ضرب/ في مصر. واستمرت سلسلة النقود العثمانية تتداول في مصر حتى عصر محمد علي سواء أمضروبة كانت في استانبول أو في مصر نفسها ولم يقطع ترابطها غير حادثين: أولهما ثورة علي بك الكبير "شيخ البلد" الذي نجح في سنة 1769 م في الخروج من طاعة الدولة العثمانية والاستقلال بالبلاد، والثاني تمثل في وصول حملة بونابرت والاستيلاء على مصر سنة 1798 م فأعاد نابليون تشغيل الضربخانة المصرية في القلعة تحت اشراف الفرنسيين، وقد كانت النقود العربية وقتذاك إحياء للقروش المصرية في عهد "علي بك" ويذكر Samuel Bernard سامويل برنارد في كتابه "وصف مصر" ان هذه النقود الجديدة التي ضربها الفرنسيون كانت مقبولة في السوق التجارية. * أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.