لا شك في أن العالم ما زال يتذكر عملية تهريب يهود الفلاشا، أو ما أطلق عليها عملية موسى من أثيوبيا إلى إسرائيل عام 1985، ولا أظن أن إسرائيل تستطيع الادعاء بأن ما قامت به كان عملاً إنسانياً، فالعمل الإنساني لا يعرف العرقية والعنصرية، ويعتبر الناس سواسية لا فرق بينهم، بسبب الأصل أو الجنس أو اللون. ولو قارنا انفعالنا بما يصيب الناس في أرجاء الدنيا بانفعال غيرنا، لوجدنا أن العالم الإسلامي كان دائماً هو الأسرع إحساساً بآلام المنكوبين، من ضحايا الجوع والكوارث الطبيعية وغيرها، واستجابة لهذا الانفعال يسعى جاهداً لإنقاذهم من منطلق أنهم بشر يربطنا بهم رباط الإنسانية، ولم نفرق في المعونة بينهم بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو الانتماء السياسي - فهم جميعاً بشر. ولكن الدولة العبرية بشذوذها وعرقيتها وعنصريتها المتعصبة منذ تأسيسها على ارض العرب، تنفذ عمليات التهجير، لتعيد بذلك إلى الأذهان عمليات التهجير التي شهدها القرن التاسع عشر والقرن الماضي، ففي عام 1882بدأ تهجير 25 ألف يهودي من روسيا، ثم تم تهجير 40 ألفاً في عام 1904، وتتابعت أفواج المهاجرين التي كانت سبباً في اكبر نكبة في التاريخ جرى تخطيطها ضد شعب آمن في أرضه ووطنه، فقد أدى توطين اليهود في فلسطين بخبث الى قيام دولة العنصرية إسرائيل. وهجرة يهود مصر على قلة عددهم إلى إسرائيل وغيرها لا تختلف شكلاً ولا مضموناً عن هجرات اليهود من دول أخرى، بل إن يهوداً في دول عربية أخرى هاجروا سعياً وراء الثروة واقتناص الفرص في دول صناعية، كالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. وإذا كانت هذه الأيام مشحونة إعلامياً وبفعل صهيوني - أميركي بفترة التهدئة على أرض العراق المحتل، وفلسطين الجريحة، وعلى الحالة السورية - الإسرائيلية، وانفراج الأزمة اللبنانية، فإن إسرائيل لم تترك هذه الفرصة السانحة تضيع سدى. ولكن كيف؟ لا بد من الاستفادة من الوضع، لأنه لن يكون هناك سلام مع الفلسطينيين، وقيام دولة فلسطينية في عهد السيد بوش، فما قاله وملأ الغمام ليس أكثر من كلام في كلام، فهو يعد الأيام للرحيل عن البيت الأبيض، وأولمرت الجزار محاط بتحقيقات عن قضايا فساد تهدد مستقبله السياسي، وآخر من تخلى عنه وزير دفاعه الذي طالبه الأربعاء الماضي بالتنحي أو مواجهة انتخابات مبكرة، وأصبح همه الأول والأخير الهروب من التحقيقات التي تلاحقه. وليست هناك جدية أميركية - إسرائيلية في التهدئة ولا في صنع سلام، والوضع في العراق يندفع من سيئ إلى أسوأ، والسلام مع سورية بشروط إسرائيلية - أميركية سيراوح مكانه، وأزمة لبنان حُلت عربياً وهو ما يدمي قلبي إسرائيل وأميركا. ومع تصديق بعض العرب لرسالة التهدئة، رأت إسرائيل أن الوضع مناسب جداً لفعل فعلتها، والهدف هذه المرة أرض الكنانة، والقضية قضية يهود مصر، فجاء التخطيط لعقد المؤتمر الدولي ليهود مصر في القاهرة، الذي حددت له الفترة من 25 إلى 29 من هذا الشهر بمشاركة السفير الإسرائيلي، وخيراً فعلت السلطات المصرية عندما أحبطت هذه المؤامرة الصهيونية بعدم سماحها بعقد المؤتمر فكانت ضربة معلم، وهي كانت قد فعلت الشيء نفسه عام 2006، فلم توافق وقتها على عقد المؤتمر العالمي ليهود مصر على أراضيها فعقد في جامعة حيفا تحت شعار"نحن أبناء الخروج الثاني من مصر". المهم أن المؤتمر يطالب بتعويضات عما يسمى بممتلكات اليهود المصريين المهاجرين من أرض الكنانة ضمن حملة منظمة للوبي الصهيوني، حتى أن الكونغرس الأميركي أصدر قراراً يعتبر أن اليهود الذين غادروا بعض الدول العربية في حكم المهاجرين، والحكومة العبرية من جانبها، وهي تحظى بكل دعم أميركي وغربي، ثبتت فكرة عقد المؤتمر عام 2006 وهذا العام، للمطالبة بتعويضات للإسرائيليين الذين هاجروا إليها أو إلى دول أخرى! وإسرائيل بمكر ودهاء يهوديين تعلم أن اليهود الذين تركوا مصر غادروها بإرادتهم المطلقة وباعوا ممتلكاتهم قبل هجرتهم، أو إن بعضها خضع للتأميم في مصر عندما كان قانون التأميم مطبقاً على الجميع من دون تمييز بين مسلم ومسيحي أو يهودي ولم يضربهم أحد على أيديهم لترك الوطن. وإذا كانت إسرائيل والكونغرس الأميركي يدعيان غير هذا ويعتبرانهم لاجئين فالدول التي هاجروا منها وتركوها وراء ظهورهم ترحب باستقبالهم، بل واكتساب الجنسية التي تخلوا عنها، طمعاً في الثروة والنفوذ وجنسيات اعتقدوا ببريقها وقوة دولها وسطوتها العسكرية والمالية والاقتصادية. إن احترام حقوق الإنسان مبدأ لا يقبل التجزئة ولا يجوز تطبيقه على شعب من دون شعب أو جنس من دون جنس أو فئة من دون فئة - ولقد كان يهود مصر يعيشون على قدم المساواة في الحقوق والواجبات مع مواطنيهم الآخرين. والدول العربية والإسلامية حرصت دائماً على المساواة بين مواطنيها من دون تفرقة بينهم نتيجة دين أو عرق، وقد ظل اليهود يجدون كل الرعاية والعناية ويتمتعون بالمساواة مع المواطنين من أهل الديانات الأخرى. ونذكر هنا نموذجاً واحداً من النماذج الكبيرة التي تؤكد التسامح في الدول الإسلامية وكيفية معاملة أبناء الأديان الأخرى ومن بينهم اليهود. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية طلبت الحكومة الفرنسية من الحكومة المغربية تسليمها اليهود المقيمين في المغرب، وكانت الحكومة الفرنسية وقتذاك هي حكومة فيشي الموالية لألمانيا النازية والخاضعة لأوامر هتلر - وكان مصير بعض اليهود في المغرب كمصير اليهود في ألمانيا والدول الأوروبية التي احتلها النازي - على رغم ذلك لم يوافق ملك المغرب الملك الراحل محمد الخامس على تسليم اليهود وقال:"إن هؤلاء مواطنون في المغرب ولهم علينا حق الحماية والرعاية"، وهذا الموقف تأصيل لمبادئ الإسلام في احترام حقوق الإنسان. وإذا كان الصهاينة يتحدثون بلا حياء ولا احترام لعقول الآخرين عن الأهداف الإنسانية من تهجير اليهود من بلادهم الأصلية إلى فلسطين، فلنا أن نسأل أين هذه الأهداف؟ ولماذا لم يقبلوا بها لشعب فلسطين الذي يعيش في الخيام والعراء؟ وإذا كانت الدوافع إنسانية حقاً - كما تزعم إسرائيل وأبواق دعايتها، فلماذا جندت بعض المهاجرين لقتل الفلسطينيين وتشريدهم من ديارهم؟ ولماذا عملت على غرسهم في أرض لا يمتون لها بصلة، مستخدمة كل طرق الاحتيال والغش والسبل غير المشروعة؟ أي إنسانية هذه التي تغتصب الأرض من أصحابها لتعطيها لمن لا حق له فيها؟ أي إنسانية هذه التي تجمع شذّاذ الآفاق من كل حدب وصوب لتشرد من أجلهم شعباً مسالماً كان يعيش في أمان وسلام؟! وإذا كانت إسرائيل تطالب بتعويضات ليهود مصر والكونغرس الأميركي يعتبر اليهود الذين غادروا بعض الدول العربية لاجئين - فهذه القاعدة القانونية مقبولة عند العرب جملة وتفصيلاً، فهل يقبل الكونغرس وإسرائيل الترحيب بعودة اللاجئين الفلسطينيين طبقاً للقرار رقم 194 وتعويضهم؟ لو قبلت إسرائيل والإدارة الأميركية والكونغرس الأميركي ذلك لقلنا إن العالم يعيش حقاً حالة من العدالة بدلاً من عالم"من غلب سلب"، ولكن إسرائيل ظلت دائماً عنواناً للممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية البعيدة عن القيم والمنافية للقواعد والأعراف الدولية منذ قيامها عام 1948، وظلت أميركا دائماً هي الداعم لها في ممارساتها الفاسدة، إذ اعترف بها الرئيس ترومان بعد 11 دقيقة فقط من إعلان تأسيسها وظلت كل الإدارات الأميركية المتعاقبة تدعمها من دون حدود ومن دون خجل على رغم ممارساتها الوحشية ضد الشعب العربي الفلسطيني. ثم إذا كانت إسرائيل تطالب مصر بتعويضات، أليس من باب أولى تطبيق قواعد القانون الدولي والشرعية والأعراف الدولية واحترام الاتفاقات الدولية ومنها المعاهدة المصرية - الإسرائيلية لعام 1979 التي نصت على دخول الطرفين المتعاقدين في مفاوضات لحل قضايا منها قضية الثروة النفطية المصرية التي استولت عليها إسرائيل خلال الفترة من عام 1967 إلى عام 1979؟ فإسرائيل استغلت الحقول النفطية المصرية لأكثر من 12 عاماً وإنتاج مصر من البترول وغيره في تلك الفترة من التاريخ كان معروفاً وحسابه سهل، هذا إذا تغاضينا عن أن إسرائيل كانت تسرق النفط المصري جهاراً نهاراً وتنتج بأقصى قدرة للإنتاج. وإذا كان احتياطي مصر من النفط نحو 4 بلايين برميل، والآبار النفطية المصرية كانت في أحسن أحوالها فلنا أن نتصور حجم الثروة التي سرقتها الدولة العبرية، وأسعار النفط في تلك الفترة معروفة وليست خافية على أحد! ثم لماذا لم تتحدث الدولة العبرية عن الخسائر المالية التي لحقت بمصر جراء إغلاق قناة السويس بسبب الاحتلال الإسرائيلي ناهيك عن التدمير الذي ألحقته الآلة العسكرية الإسرائيلية بالممتلكات المصرية العامة والخاصة وما لحق بالمواطنين في سيناء وغيرها، وهجرة الكثيرين منهم إلى مدن مصر المختلفة بفعل الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يترك شيئاً إلا وامتدت إليه يده بالتدمير أو السرقة، إذ طاولت يدها حتى الآثار المصرية؟ ثم تأتينا الدولة العبرية لتطالب بتعويضات للمهاجرين وتنسى حقوق الآخرين. ولتصل إلى هدفها تجند بعض الأقلام شرقاً وغرباً والتي للأسف لا تخفي إعجابها بتصرفات إسرائيل الخرقاء والإشادة بها ووصف أعمالها الإجرامية بالبطولة، والتهليل لكل ما يصدر منها وعنها من أعمال لا أخلاقية ولا إنسانية. هذه الأقلام ووسائل الإعلام التي أسكرتها الدولارات المدفوعة أو أعماها الغرض تتحدث بلسان إسرائيل وعلى هواها عن حقوق الإنسان والديموقراطية والحرية، وتتناسى أن الصهيونية شكل أصيل من أشكال العنصرية، لكن هذا هو عالم اليوم الذي نعيش فيه، عالم"من غلب سلب"قانون الغاب، عنوان سياسة الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش وتابعه أولمرت وعصابته قبله وبعده من مصاصي الدماء. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية