سيدي جلجامش ربما كان من المعتاد ان يكتب الأجداد رسائل يدخرونها في لوح حجري أو بردية أو رقيم أو ورقة يودعونها في قمقم، وهم يحلمون بأنها سوف تعبر نهر الزمن، وتصل الى أحفادهم، ويتخيلون أن هؤلاء الأحفاد سيسترجعون تلك اللحظة الفريدة من الإحساس بوجودهم في العالم. أمّا ان يكتب اللاحقون للأسلاف، ويحلموا باختراق حدود الزمن والعودة الى الماضي، فذلك ما لم يحلم به أحد. ولكنّ لي فيك أسوة حسنة، أنت الذي حاولت اختلاس لغز الزمن الأبدي، وافتضاض سرّ الخلود، أنت الذي اخترقت حجاب الأيام، ورحلت الى حيث يسكن جدك "أُوتا - نيشتم" من أوتيَ الحياة الخالدة، عند فم النهرين. أبي العزيز، منذ اكتشفت ألواح ملحمتك والباحثون مختلفون في تفسيرها. رأى بعضهم في نصيحة السابيتم، ساقية الحانة التي تسبأ الخمر، لك تعبيراً عن فلسفة البابليين والأوروكيين في اللذة واغتنام اللحظة الحاضرة. ورأى آخرون أن عبورك بحر مياه الموت، الى حيث يسكن جدك، عند فم النهرين، شبيه بعبور انياس في الإلياذة، وأودسيوس في الأوديسة، الى العالم السفلي لمقابلة أبيه أو أمه أو العرّاف الأعمى تيريزياس. وليست عشبة الخلود التي أوتيتها سوى الغصن الذهبي لعبور عتبة العالم السفلي الذي لا يمكن لأحد الوصول اليه. في رأي أحفادك، يا أبي، أن بحثك يشمل ذلك كله ويفيض عنه. وليس هؤلاء سوى الأضواء المتشظية من مشكاة نورك الوهاج، شأنهم شأن حاسب كريم الدين، وبلوقيا في "ألف ليلة وليلة"، والصعب ذي القرنين والاسكندر الذي اجتاز بحر الظلمات ليصل الى عين الحياة. لقد كنت تطارد "الحياة" نفسها. أجل، كنت تطارد "الحياة" بكل ما تعنيه من كمال ونقص، وموت وخلود، وزمن انقضى وزمن سيأتي. الحياة بكل ما تدل عليه مفردات معجمك الغنيّ: "بلطم" و"نيش" ما زلنا نستخدم حتى اليوم هذه الكلمة في صيغة نَفَس. مصير الإنسان محدود بالفناء منذ لحظة خلقه الأُولى. لقد أُريد للإنسان ان يجرّب الكمال من خلال نقصه، وأن يعيش الخلود من خلال فنائه، ذلك ما يتضح من نصوص كثيرة كتبت بعدك. لقد قُدِّر على الإنسان الفناء والخلود معاً، والكمال والنقص، قُُدِّر عليه أن يجرّب الكمال من خلال نقصه، وأن يعيش الى الأبد من خلال تلاشيه. فالإنسان مخلوق من جوهرين متنازعين أحدهما أرضي، والأخر سماوي. قبل عودتك بقليل الى أوروك أدركت أن من العبث ان تبتغي خلود عنصر الطين الأرضي، فليس أمام الجوهر الطيني من الإنسان سوى الخلود السردي، خلود "الأحاديث" و"الذكر"، كما أطلق عليه قسم من أحفادك في الصحراء. أتخيّل، سيدي، لحظة هبطت الى البئر، والأحجار مشدودةٌ الى قدميك، لاستخراج عشبة الخلود، وأتصور حشرجة الفرح التي غمرت روحك، وأنت تفك عن قدميك الأحجار، بعد ان ظفرت بالنبات العجيب بين يديك: "لأحملنَّه معي الى أُوروك المحصنة، وأُشرك معي الناس ليأكلوا منه". لكنّ "أسيرة التراب"، الحية، الحياة، ابنة الرمل، ابنة الرمضاء، تمرضال، كما يسميها الطوارق، كانت لك بالمرصاد. اختلست النبات وهربت به. عندئذ تساءلتَ: "من أجل مَن يا أور - شنابي كلّت يداي؟ مِن أجل مَن استنزفتُ دم قلبي؟ لم أجنِ لنفسي خيراً، بل قدمتُ الخير الى أسد التراب". أتخيّل أيضاً تلك اللحظة التي خاب فيها مسعى عفان وبلوقيا، وهما يتوخيان العثور على العشبة التي كلّ مَن آكل منها لا يموت حتى آخر الدهر، بصحبة ملكة الحيات. عبثاً يبحث الإنسان عن وجود الزمن كتلة واحدة. لأن من طبيعة الزمن ان يفرق وجوده في آنات متعاقبة، نسميها الماضي والحاضر والمستقبل، ويوزّع وجوده الخفيَّ الواحد في تتابعها الخطي المتفرق. وهكذا ما من فلسفة للذة هنا، بل احساس بجوهر المشروع البشري، الذي لا يكتمل إلاّ بالنقصان، ولا يتصوّر استمرار الحياة إلاّ من خلال مواجهة الموت. يقول الفلاسفة المعاصرون إنّ قوام الوجود الانساني يتحقق في فهم الزمان حداً احتمالياً وأفقاً للتجربة. وأنت، يا أبي، كنت الرائد الفريد في ذلك. لقد أدركت ان خلودك وحدك لن يتحقق إلاّ بخلود أهل أوروك معك. فلم تستأثرْ نفسك بعشبة الخلود، بل آثرت أن يتناولها أهل أوروك معك، قررتَ ألاّ يكون عافي إنائك واحداً، كما يعبّر أحد أتباعك من الصعاليك. أدركتَ انّ عظمة أسوار أوروك لن ترتفع إلا حين يشاركك الآخرون ببهجة رؤيتها والاحتماء بها. أدركت أنَّ الإنسان يوزع خلوده السردي في لحظات فنائه الفعليّ المتعاقبة، وأنّ الزمن السرمدي لن يكشف عن معناه إلاّ بتساقط آناته في فراغ الانقضاء الصامت. والآن يا أبي كم بقي من مشروعك؟ أٌنبيك، ولعلّك تعرف أكثر مني، أن الحياة ترملت بعدك. ونحن أبناءك اليتامى ما زلنا في مهبّ الضياع، ضليلين مشردين، نبحث عن سقف أو حائط، يقي أحلامنا وأمانينا البسيطة من التبعثر في شلالات الخراب. أُنبيك سيدي ان الأشياء تغيرت بعدك، وأنّ "ننسون" الحكيمة العارفة، والدتكم، اغتنمت أول قافلة خرجت من أسوار أوروك، وأغمضت عينيها لتحتفظ في صورة برجها العالي وبوابتها الذهبية ذات القرنين. لكن حداة القافلة تآمروا عليها، واضطروها الى الهبوط في منتصف الطريق، والعمل دلالة. أنبيك، سيدي وشاعري الأول، ان سنمّار عُثر عليه مشنوقاً يتدلّى من حبل من أعلى نقطة في برج الخورنق. وان المتنبي الذي "صحب الزمان" وعناه من أمره ما عناه، وجدت جثته في عاقولاء، وقد سرقت جميع دفاتره بحثاً عن شيء فيها احتار سارقوه في تسميته لأنه اعتبره ممّا يدقّ على الوصف ويجلّ عن التسمية. أُنبيك ان الجواهري، ابن كوفتك الحمراء، كوثى التي تعرفها، حاول مثلك اختلاس لغز الزمن، وعلّل أبناءه بشرّ تعلة، أعني الخلود السردي، "خلود أبيهم في بطون المراجع". لكنه عاد في آخر الرحلة، ولم يحصل من الموت نفسه على خمسة أشبار تغطي خيبة مسعاه. أُنبيك وأُنبيك... وأنت الحكيم العارف، أنّ أسوار أُوروك انهارت، ونعبت فيها البوم. لا أعني الهام والصدى، بل بوم الخراب. ونحن، أبناءك المشردين، نحسّ باليتم من بعدك.