مدخل: يشير محمد عجينة في كتابه موسوعة أساطير العرب إلى أن الحديث عن الأسطورة في عصر العلم والتكنولوجيا من المفارقات المدهشة ومع ذلك فلا نكاد نعدم في أي مجتمع من المجتمعات الحديثة أساطير صريحة أو مقنعة، هي موجودة في صورة بقايا أو رواسب ضمن الاستعمالات اللغوية وفي مظاهر السلوك وغيرها. الأسطورة في المثل الشعبي: من الأمثال الشعبية التي مازالت تجري على ألسنة الناس إلى اليوم وكثيراً ما نسمعها في أوساط العامة: قولهم: (يوم الحصى تمر) وقولهم: (يوم التراب ليّن) وقولهم: (يوم الحصى رطب). وهذه الأمثال الثلاثة يطلقونها للدلالة على الزمن القديم أو الإشارة إليه وهي تمثل أساطير قديمة في التراث العربي تؤكد أن التراب كان طيناً والحجارة كانت رطبة وذلك في بداية خلقها قبل أن تتحول إلى هيئتها الحالية!! ومن أمثالهم: (يوم كل شيٍّ يحكي). قال العبودي (5/1800): أن من خرافاتهم أن كل الحيوانات والطيور في قديم الزمان كانت تتكلم كما يتكلم الإنسان إلا أنها استعجمت وبقي الإنسان وحده القادر على الكلام، وقال إن الخاصة يضربونه لاستبعاد وقوع الشيء كما يستبعد نطق الحيوان في القديم، أما العامة فهي تقول ذلك على سبيل التقرير والتصديق وكانوا يفتتحون به حكاياتهم وأمثالهم التي اخترعوها على السنة الطيور والحيوانات. ومن أمثالهم: (يوم علمك والجنى حوذان) قال الجهيمان (9/313): أي أن معلوماتك القديمة هي أن أعشاب الصحراء التي تؤكل ومنها الحوذان لا تؤكل الآن، وأشار إلى أن هذا المثل يضرب لتغير الزمان واختلاف العادات والتقاليد. الأساطير الموروثة: والحقيقة إن التراث العربي القديم ينساب في الذاكرة العربية فيعيد نفسه بطريقة أو بأخرى من خلال عامة الناس فالأساطير الجاهلية مازالت تستنسخ على مدى التاريخ العربي إلى يومنا هذا فقد جاء في لسان العرب: أَن رؤبة بن العجاج نزل ماء من المياه، فأَراد أَن يتزوَّج امرأَة فقالت له المرأَة: ما سِنُّك، ما مالُك، ما كذا؟ فأَنشأَ يقول: لمَّا ازْدَرتْ نَقْدِي وقلَّت إِبلي تأَلَّقَتْ، واتَّصَلتْ بعُكْل تَسْأَلُني عن السِّنِين كَمْ لي؟ فقلت: لو عَمَّرْتُ عمرَ الحِسْل، أَو عُمْرَ نوح زمنَ الفِطَحْل، والصَّخْر مُبْتَلٌّ كطِين الوَحْل، أَو أَنَّني أُوتِيتُ عِلْم الحُكْل، علم سليمان كلامَ النَّمْل، كنتُ رَهِين هَرَم أَو قَتْل وسئل رؤبة عن قوله زمن الفِطَحْل فقال: أَيام كانت الحجارة فيه رِطاباً، قال ابن منظور: الفِطَحْل، على وزن الهِزَبْر: دهر لم يخلَق الناس فيه بَعْدُ، وزمنُ الفِطَحْل زمن نوح النبي، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال الطرماح: لنا الملك ذا صم الحجارة رطبة وعهد الصفا باللين من أقدم العهد وقال آخر: وكان رطيبا يوم ذلك صخرها وكان خضيداً طلحها وسيالها أي أنه في الزمن القديم كانت الحجارة رطبة كما كانت الأشجار ذات الأشواك خالية من الشوك الذي لم يظهر عليها إلا في مرحلة تحول الحجارة إلى الحالة الصلبة التي هي عليها الآن. الجهيمان قال الجاحظ في كتابه الحيوان: "وهذه الأحاديث، وهذه الأشعار، تدلُّ على أنَّهُمْ قد كانوا يقولون: إنَّ الصخور كانت رَطْبَةً ليِّنة، وإنَّ كلَّ شيءٍ قد كانَ يعرِف وينطق، وإنّ الأشجار والنَّخل لم يكن عليها شوكٌ" وزعم بعض المفسِّرين وأصحاب الأخبار، أنّ الشّوك إنما اعترى الأشجار في صبيحة اليوم الذي زعَمتِ النّصارى فيه أنّ المسيح ابنُ اللّه. قال الجاحظ: وكان مقاتل يقولُ - حَدّثَنَا بذلك عنه أبو عقيل السّواق، وكما أحدَ رواتِه والحاملين عنه - إنَّ الصُّخورَ كانَتْ لَيِّنَةً، وإنّ قدمَ إبراهيم عليه السلام أثرت في تلك الصخرة، كتأثير أقدامِ الناس في ذلك الزّمان، إلاَّ أنَّ اللّه تعالى توفّى تلك الآثارَ، وعفَّى عليها، ومسَحَها ومحاها، وترَكَ أثرَ مقامِ إبراهيمَ عليه السلام، والحجَّةُ إنما هي في إفراده بذلك ومَحْوِ ما سواهُ من آثار أقدام الناس، ليس أنّ إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم كان وطئ على صخرة خلقاءَ يابسةٍ فأثَّرَ فيها. وهكذا نرى أن هذه الأسطورة امتدت إلى الجوانب الدينية وحاولت الربط بين الحقيقة والخيال من خلال استلهام قصص الأنبياء لكي تكتسب مشروعية التصديق في الذاكرة الشعبية قديماً وحديثاً. قال أبو العباس الكامل في اللغة والأدب: وأنشدني رجل من بني العنبر، أعرابي فصيح، لعبيد بن أيوب العنبري: كأني وليلى لم يكن حل أهلنا بوادٍ خصيب والسلام رطابُ وفي المخصص لابن سيده نجد تفسيراً مقبولاً لسبب هذه استخدام هذه العبارات حيث قال أبو حنيفة: إذا كان عامٌ خصيبٌ مشهور بالكلأ والكمأة والجراد سمي (عام الماء) وأنشد: رأتني تحادبت الغداة ومن يكن فتىً قبل عام الماء فهو كبير ويقال أتيتك عام الهدملة والفطحل - يعني زمن الخصب والريف وأنشد: فقلت لو عمرت عمر الحسل أو عمر نوحٍ زمن الفطحل والصخر مبتلٌ كطين الوحل ويقال كان هذا في (عام الفتق) - إذا كان مشهوراً بالخصب وقال رؤبة ينعت امرأة: لم ترج رسلاً بعد أعوام الفتق قيل سمي الفتق لتفتق بطون الإبل بالشحم يقال أفتق الناس - إذا أعشبوا وأسمنوا. وقال أبو العلاء في رسالة الصاهل والشاجح إني لأرجو أن يكون زمن الفطحل قد حان، والأنيس عندهم أن زمن الفطحل زمان كان بعد الطوفان عظم فيه الخصب وحسنت أحوال أهله، وإياه عني رؤبة في رجزه وقال بعضهم: زمن الفطحل زمن لم يخلق بعد. وأخيراً ومن خلال ما ذكرنا يتضح أن الأسطورة في الأمثال الشعبية لها امتداد زمني عميق يؤكد أن الذاكرة الشعبية لا يمكنها الانفكاك من الأسطورة رغم التأثير الكبير لنور الإيمان ونور العلم.