يشي عنوان مجموعة الشاعر السعودي سعد الحميدين الصادرة عن دار المدى دمشق بالجفاف والغبار والسواد والزرع الذي يخبئ أوراقه اتقاء من الريح والأرض التي تماطل وتراوغ والصدر الذي يفور فيحترق حطب القفص الممصوص الأضلاع. تيبس الغيوم، فييبس كل شيء، الزرع والضرع والبشر. والعلاقة الدلالية والسببية والإشارية بين الغيم والمطر والارتواء، تطبع ليس القصيدة الافتتاحية بطابعها فحسب، وإنما تنسحب على قصائد أخرى في المجموعة، حتى وإن أزيح الدال أحياناً، وترك المدلول يعلن عن نفسه مضخماً بعض الشيء لكونه يهيمن على الفضاء الدلالي وحيداً. السعال الذي يثور مشلولاً في الصدر، من علامات السل الذي يعرف أيضاً بالسعال الجاف. إنه الجفاف يدفق أنهار غبار. وهذا الأخير يكاد أن يكون الطرف الآخر من ثنائية مأسوية، طرفها الأول الجفاف. تعبر القطارات كلها سريعة من دون توقف. وليس أمام الإنسان في هذا المكان الموحش المغلق، إلا أن يقرأ سفر الأحلام وهو يضع المرفق فوق وسادة الطين، يسند الرأس ببطن الكف. ومثل هذه الصورة الحركية الدالة، التي يمكن إدراجها ضمن لغة أخرى هي لغة الجسد، بعيداً من البلاغة التقليدية، تعني ذروة اليأس، إذ يطل العجز الإنساني برأسه. الوضع بإيماءاته الدالة لا يحتاج الى الكلام الشارح أو المطنب. ولعل سعد الحميدين في تمايزه عن كثير من الشعراء، يتقن التكثيف والاختزال، فتغدو البلاغة في سياق كهذا، بلاغة جديدة تنهض على مشهدية"بصرية"تتوسل العين، أكثر من الأذن. ولعلّ قصيدة"تقاطعات البدء"مبنية على هذا النوع من الكتابة:"وعندما استراح مد رجليه بواجهة الشمس راعي البقر يتجشأ بخوار يتعالى الى كل مساحات الشروق الغروب". وإن كانت الموضوعة مختلفة قليلاً. فالأميركي، الذي يتلطى خلف تمثال الحرية،"يحمل مشعلاً يؤطره، يوزعه، علامة الحرية"يقبض على كل شيء ويعطي كل شيء. نحن أمة"يابسة أوراقها، باهتة ألوانها"، يقول الشاعر. اليباس بنية عميقة في المجموعة الشعرية، تطاول معظم القصائد. قد تستبدل أحياناً بالغبار والسل والبيوت التي تكسرت سعافها. واليباس يعني أيضاً الشح والنضوب، وعدم القدرة على العطاء. لقد"طلبنا العلوم من المهد الى اللحد"وجال رفاعة الطهطاوي في فرنسا، وغيره كثيرون، وعدنا صفر اليدين! والسؤال السرمدي الذي ما انفك يتردد صداه"يهيج كما رأس ثور ماذا سنعطي؟"ليس لدينا ما نعطيه. الإحساس بالخواء، الإحساس بالدونية، الإحساس بالتهميش، الإحساس بأننا أمة مصنوعة من طحالب، يتوزع القصائد كلها، ليصير ضرباً من ضروب المساءلة، مساءلة الحاضر كما الماضي. في"القرطاس الأسود والحبر الرمادي"ثمة تحديد للون الذاهب الى أقصى مداه. السواد ذو الدلالة الكالحة، لا يتسرب إليه بعض ضوء. إنه ظل قاتم. القرطاس الورق هذا لونه وهو الذي لا يكشف عادة إلا عن بياض ناصع. الصورة مقلوبة ومعكوسة. أما الحبر فهو رمادي! أي أن الرمادي ينعطف بواو العطف على الأسود. وإذا كان الأسود دائرة مغلقة من حيث إحكام الإغلاق، فإن الرمادي زئبقي رجراج، عصي على التحديد:"خدعوك بالقرطاس/ ما كتبوا سوى سطرين/ ما وهبوا سوى رقمين/ وما نشروا سوى الخبر الملفق من حثالات/ الوكالات المبرمجة الرتيبة". ما نتلقاه نحن"نفاية الأفكار"من السوق المفتوح لكل الباعة الجوالين. أين هي الحقيقة إذاً؟ الكلمات السافرة لا تصل لأنها تنشق قبل ولادتها. يربط الشاعر بين الكلمات المسجونة، داخلاً وخارجاً، والتداعي أو الانهيار العام. فالهامات القزمة"شلت وما عادت تقاوم". يحاول الشاعر أن ينأى بنفسه عن المباشرة عبر إنشاء الصورة المركبة حيناً، ونحت الكلمات التي لم يأت عليها الزمن، حيناً آخر. بيد أنه، وهو الناقم والمستهجن، لا يقوى على الهجاء المجازي، إذا جاز قول ذلك، قد يقع في فخ الانفعال، فيكون الاسم مطابقاً للمسمى:"جلسوا على عتبات دار الوهم. يفترشون أمتاراً من الأوراق والأخبار عن حال الموانئ... لا فرع فيها غير ما يمليه دولار ويورو". لا تحمل الأخبار إلا الموت، الماء أسود والثلج أسود. لا سلام طالما أن الفيتو يأخذ بركاب الآخر، وأغصان الزيتون تنكسر! توغل اللوحة في السواد الذي يلتهم الألوان كلها، حتى لون الثلج! هذا البياض الراسخ كما يحال عادة الى مرجعيته الطبيعية، يصبح في المتخيل الشعري أسود! هكذا يعانق اليباس السواد، والجفاف الغبار، والقحط رغاء البعير، والبيات الشعري الاجترار والتكرار. أي كون ذلك الذي نحيا فيه؟ في قصيدة"شاعر الشعر"التي يهديها الى روح الشاعر ممدوح عدوان، يزاوج الحميدين بين الشاعر والشعر. كأن أحدهما لا يكفي! لعله توكيد التوكيد، أو فرادة الشاعر. الشعر بداية والشعر نهاية، مسافة بين قطبي الكون. الشعر أصل الأشياء"يفيض عطاء... كما النبع يروي صفاء... ويجري الى الآخرين... وينفذ في كل شبر ليعطي". إنه الحراك وسط الخمول، ودورة الحياة اليومية، التي تعيد إنتاج ذاتها."تصميم المباني، وقفة الناس أمام الفرن، دور الناس في السجن، مواعيد الولادات، الجنازات، الأغاني والأماني". الشعر يخرج على الزمن... يبحر فيه الى حيث الآتي، يلفظ الهمّ ليبشر بالحرية."سطره سفر، عبارته قصيدة، نبعه نهر، وواديه بحار ومحيط". "غيوم يابسة"لقطة مكبرة للبؤس العربي، والقهر والانكفاء نحو الداخل، ويد تضرب بقوة على الباب الكبير والجدار الكبير، فهل تفتح كوة وتضاء شمعة. * ناقد سوري مقيم في الكويت