التطورات الأخيرة في العراق تسمح بالحديث عن تحسن أمني وتقدم سياسي مقرونين بنوع من الثقة بالنفس غير مسبوقة تشعر بها الحكومة العراقية، خصوصا رئيسها نوري المالكي. أمنيا أصبحت القوات العراقية أكثر عددا وتدريبا وقدرة على خوض المعارك والتفوق فيها ثم الانتشار والبقاء في المناطق التي"تحررها"حتى من دون معارك أحيانا، لأن"العدو"بات يفضل الانسحاب والتخلي عن المواجهة، إما نتيجة لتراجع معنوياته أو لأضطراره القبول بشروط القوات الحكومية تنفيذاً لخطة فرض القانون. يتم هذا كله في إطار نمط جديد من التعاون بين القيادتين العسكريتين للقوات العراقية والقوة المتعددة الجنسية التي تقودها أميركا ويتمثل في ان القوات العراقية هي التي تخوض المعارك فيما المتعددة الجنسية توفر لها الدعم اللوجستي أرضا وجوا من دون ان تتواجه مباشرة مع"العدو". البصرة مثلا انتقلت من حال الى حال. القوات العراقية هي المسيطرة على زمام الأمور. وإذ إختفت الميليشيات بات السكان أكثر اطمئنانا الى حد أن النساء تجرأن مجددا الظهور في أماكن عامة بلا حجاب وعودة متاجر الى بيع المشروبات الكحولية. في بغداد تكاد المشكلة الأمنية تنحصر في مدينة الصدر، وهذه بدأت بالانحسار. فوفقا للاتفاق بين الحكومة والتيار الصدري اختفت ميليشيات جيش المهدي، فيما توغلت القوات العراقية الى عمق المدينة كي تنتشر وتبقى وتقيم الحواجز الأمنية وتمهد الطريق أمام المؤسسات المعنية بتقديم الخدمات للسكان. هكذا تنفس سكان المنطقة الدولية المعروفة بالخضراء في حي كرادة مريم الصعداء بعد توقف القصف اليومي بالصواريخ التي كانت تنطلق من مدينة الصدر. يقال هذا كله مع الاشارة الى أن توفير الخدمات يبقى التحدي الأكبر الذي مازالت الحكومة عاجزة عن مواجهته في ظل استمرار معاناة سكان بغداد كلها من انقطاعات طويلة للكهرباء والماء، والى غير ذلك. أما في الموصل فيبدو ان"العدو"آثر حتى الآن تجنب المواجهة مع القوات الحكومية التي تقدمت وانتشرت، في ظل الدعم اللوجستي من جانب المتعددة الجنسية، من دون قتال وباشرت حملة اعتقالات واسعة استهدفت المشتبه بهم، خصوصا من القاعديّين. تبقى بطبيعة الحال التفجيرات الانتحارية التي ما زالت تفتك بالسكان في بغداد ومناطق اخرى من العراق. والأكيد ان هذه المشكلة ستستمر حتى مستقبل منظور. قصارى الكلام ان التقدم على الصعيد الأمني يمكن وصفه بأنه سريع مقارنة بالوتائر التي كانت تشهدها البلاد في مرحلة ما قبل عمليات البصرة التي أُطلقت عليها تسمية"صحوة الفرسان". كأن واضعيها خانهم الخيال كي يفكروا بتسمية أخرى تشي بالتمدن بدلا من الايحاءات القبلية. ما سلف يجب اعتباره تقدما أكيدا ومرحبا به حتما. لكن التقدم على الصعيد السياسي، وهو لا يقل أهمية عن الجانب الامني إن لم نقل إنه أكثر أهمية إذا أخذنا في الاعتبار ان الأمني لن يصمد طويلا إذا لم يقترن بالسياسي، مازال يتعثر ويخطو ببطء. ولعل الجديد الايجابي في الحالة السياسية يتمثل في تزايد القناعة لدى أطراف المعادلة السياسية في العراق بأن لا بديل من مفهوم قبول الآخر. وواضح ان تجسيد هذا المفهوم يجب ان يتمثل في التوصل الى أعادة تشكيل الحكومة على أساس إشراك الأطراف المشاركة في العملية السياسية، خصوصا عودة القوى العربية السنية التي انسحبت من الحكومة الائتلافية منذ نحو عام من دون ان تنجح الجهود الرامية الى عودتها حتى الان. يُشار الى انه فيما تكونت القناعة بمبدأ قبول الآخر، تحديدا بين الطيفين الشيعي والسني العربيين إذا أخذنا في الاعتبار انه لم تكن هناك مشكلة جدية في هذا الخصوص بين العرب والكرد، فإن المشكلة القائمة الآن سنية ? سنية. فالطرف الشيعي الغالب في الحكم بات أكثر انفتاحا وقبولا لمطالب العرب السنة واستعدادا لعودتهم الى الحكومة على اساس مشاركة فاعلة في صنع القرار الذي اقتصر حتى الآن على الطرفين الشيعي والكردي. بعبارة اخرى اعادة تشكيل الحكومة، على اساس عودة السنة ممثلين بجبهة التوافق التي يتزعمها النائبان عدنان الدليمي وخلف عليان ونائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، باتت الآن رهن باتفاق الجهات التي تتألف منها هذه الجبهة. كذلك يبدو أن هناك مشكلة أخرى أمام عودة القائمة العراقية المنسحبة مع عدم التزام وزيرين على الاقل بقرار القائمة الانسحاب من الحكومة متمثلة بخلافات بين الاطراف التي تتألف منها هذه القائمة بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي. الى جانب هذا كله هناك تحسن أكيد في العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان العراق بعد التفاهمات التي توصل اليها الطرفان، سواء بالنسبة الى حصة الاقليم وقواته من الموازنة العامة أو الى موضوع العقود التي وقعتها حكومة الاقليم مع شركان نفط أحنبية أو أخيرا الى الخلافات في شأن محافظة كركوك وتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي التي تعالج هذه المسألة. أحدث مؤشر الى نوع من الحلحلة لهذه المسألة يتمثل في قرار الجانب التركماني العودة الى مجلس محافظة كركوك بعد مقاطعة طويلة. يٌقال هذا مع الاشارة الى ان التركمان، كذلك الكرد والعرب، في المحافظة ما زالوا يطرحو مطالب غير مقبولة تماما من أطراف المشكلة، لكن يمكن اعتبارها مطالب تفاوضية، أي قابلة للتعديل. وإذ أخذت الاممالمتحدة تلعب دورا بات مقبولا من اطراف الخلاف لايجاد حلول توافقية فان هناك مؤشرات توحي باستعداد الاطراف المعنية للبحث في امكان القبول بوضع خاص لكركوك. كما لا بد من الاشارة الى ان هذه الحلحلة تأتي في وقت يزداد فيه التعاون والتقارب بين بغدادوأنقرة من جهة، وبدء حوار بعد قطيعة طويلة بين أنقرة وأربيل من جهة أخرى في إطار عملية بدأها الرئيس جلال طالباني بزيارة رسمية الى تركيا في آذار مارس الماضي أعقبها وصول وفد تركي رفيع المستوى الى بغداد حيث اجتمع الى وفد قاده رئيس وزراء الاقليم نيتشيرفان بارزاني ومحادثات أسفرت عن اتفاق لوضع آلية للحوار بينهما. في ضوء ما سلف كله يطرح نفسه السؤال: أليست هذه صورة وردية عن الوضع العراقي؟ والجواب أنها صورة أقرب الى الواقع، مع الأخذ في الاعتبار طبعا ان الطريق ما زال ملتويا يعج بالألغام والمطبات. وأكيد أن من المبكر المخاطرة بصياغة استنتاجات نهائية.