هناك مثلٌ كردي نصه «سطح واحد وريحان» يُضرب للاشارة الى الكيل بمكيالين. يقفز هذا المثل الى الذهن بسبب قرار قائمة «الحدباء» القومية العربية الفائزة بأكثر من نصف مقاعد مجلس محافظة نينوى في شمال العراق، القاضي باحتكارها جميع مناصب الادراة المحلية في هذه المحافظة، مُهمّشة بذلك قائمة «التآخي» الكردية التي فازت بثلث مقاعد مجلس المحافظة. ما ان اعلنت «الحدباء» قرارها هذا حتى صدرت ردود فعل عن أكثر من عشر ادارات محلية تابعة للمحافظة، ويشكل الكرد فيها غالبية، مفادها ان هذه الادارات لن تلتزم تنفيذ القرارات التي ستصدر عن ادارة الموصل الجديدة، فيما أعرب عضو عربي في مجلس كركوك عن مخاوف جماعته من امتداد الخلاف العربي – الكردي في الموصل الى محافظته. بماذا رد المحافظ القومي العربي في الموصل أثيل النجيفي؟ هدد باتخاذ اجراءات «قضائية» ضد من أسماهم ب «المتمردين». لكن الغريب انه أطلق هذا التهديد إثر اجتماعه الى عدد من ضباط سابقين كبار في الجيش العراقي من دون ان يوضح الصلة بين القضاء وهؤلاء الضباط! موقف لا شك ينطوي على خطر حقيقي. يتم هذا كله من دون أن يرمش جفن للحكومة الفيدرالية أو مجلس النواب في بغداد، كما يشكو الكرد، مشيرين الى ان قائمتهم «التآخي» التي حصلت في الانتخابات السابقة على أكثر من نصف مقاعد مجلس محافظة كركوك تعرضت لضغوط لم تتوقف حتى الآن تطالب بتقاسم السلطات بالتساوي بين الكرد والعرب والتركمان، علما ان الجانب الكردي أبدى مرونة كافية باتجاه استجابة هذا الطلب. هذا على رغم أن عدد الأصوات التي حصل عليها الكرد في الموصل يُظهر أن نسبتهم في هذه المحافظة هي أعلى من نسبة التركمان والعرب، كل على حدة، في كركوك! من هنا الكيل بمكيالين، أي أن التعامل العروبي مع الحالين ينطبق عليه المثل الكردي: «سطح واحد وريحان!»... يُقال هذا كله من دون تبرئة كاملة لمواقف لكرد التي قد لا تخلو من أخطاء وتعنّت أحيانا، لكنها لا ترقى الى مستوى الخطر «العروبي». للاستدراك لا بد من الاقرار بان لا غبار من الناحية القانونية على قرار «الحدباء» ممارسة حقها الديموقراطي في الاستئثار بمناصب مجلس المحافظة كونها فازت بغالبية النصف + واحد في الانتخابات، وبالتالي كان من حق قائمة «التآخي» في كركوك الاستئثار بجميع مناصب مجلس المحافظة. لكن هنا المشكلة. فواقع العراق التعددي حتّم أن تسير العملية السياسية لما بعد النظام الصدّامي لا بالتطبيق الحرفي للقانون، بل وفقاً لمبدأ التوافق الوطني الذي قد يستمر التمسك به للمستقبل المنظور طالما لم يتخل العراقيون بعد عن مبدأ المحاصصات. لكن في المقابل، من شأن النموذج الموصلّي الذي تقدمه «الحدباء» ان يتمسك الكرد بنموذج مماثل في كركوك فيستأثرون بالسلطة المحلية استنادا الى مبدا الغالبية. قد يٌقال ان التناسب الإثني في الموصل يختلف عنه في كركوك. ففي الأولى هناك غالبية عربية وأقلية كردية، بينما في كركوك ثلاثة مكونات إثنية النسبة بينها متقاربة. هناك فجوات عدة في هذا الطرح. فالكرد يمكنهم أن يشيروا الى أن لب المشكلة في كركوك يتمثل في أن المدينة وبعض أطرافها تعرضت، منذ وقت قريب لا يتجاوز ثلاثة عقود، لعملية بشعة تمت في العهد الصدامي لتوطين عرب استقدموا من جنوب العراق لغرض تغيير الوضع الديموغرافي للمدينة على حساب الكرد والتركمان، خصوصا الكرد، الذين رُحّلوا قسرا، ربما بعشرات الألوف، الى مناطق خارج المدينة وحتى المحافظة. عدا العرب المستوطنين هناك أقلية عربية أصلية في كركوك لم تتجاوز نسبتها الى سكان كركوك في أحسن الحالات الخمسة في المئة، وهؤلاء لم ولن ينكر أحد وجودهم المشروع في هذه المنطقة. هذه النسبة تضاعفت بمعدلات خيالية نتيجة لسياسة التوطين. بعبارة أخرى عُرفت كركوك، خصوصا المدينة، بكونها دائما كردية تركمانية قبل تطبيق سياسة التعريب فيها. وبينما توجد نزاعات حقيقية على الاراضي والممتلكات بين الكرد والعرب وبين التركمان والعرب، فلا وجود يُذكر لمثل هذه النزاعات بين الكرد والتركمان. من أزمة واحدة ذات بعد إثني في كركوك بات البلد يواجه الآن أزمة أخرى ذات بعد مماثل. ولعل حدية الأزمتين ستزداد بمناسبة انجاز تقرير بعثة الأمم المتحد لمساعدة العراق المعروفة ب «يونامي» في شأن المناطق المتنازع عليها بين أقليم كردستان والحكومة الفيدرالية في بغداد، وهو تقرير قدمه الاربعاء الماضي ممثل الاممالمتحدة في العراق ستيفان ديمستورا للزعماء العراقيين. «يونامي» لا تنوي نشر التقرير، لكن المؤكد أنه سيُسرب من جانب عراقي ما الى الاعلام، إن لم يكن قد حدث ذلك مع صدور هذا العدد من «الحياة». ماذا يضم التقرير وهل يقدم وصفة لحل النزاع؟ الأرجح لا. فبيان «يونامي» يقول ان التقرير في طبيعته «تحليلي وليس إيعازيا»، وهو لا يقدم اقتراحات بالنسبة الى المناطق المتنازع عليها، لكنه بالنسبة الى كركوك تحديدا يقدم تحليلا لأربعة خيارات تستند الى الدستور، بحسب «يونامي». بعبارة أخرى، بعد سنة من العمل على هذا التقرير تمخض الجبل فولد فأرا! لا أمر غريبا هنا ، إذ ان العراقيين، وشعوبا غيرهم، اعتادوا على ان المنظمة الدولية آخر من يستطيع تقديم حل لأزماتهم، ربما باستثناءات قليلة. حتى كتابة هذا المقال لم يتضح ما هي الخيارات الأربعة. لكن في ما سبق، كانت أوساط الاممالمتحدة في بغداد تطرح أفكارا ربما تبلورت خيارات يضمها التقرير، منها اعتبار كركوك اقليما منفصلا، أو تشكيل ادارة مشتركة بين اقليم كردستان العراق وبغداد لادارة كركوك، أو تشكيل أقاليم إثنية ليتألف من مجموعها إقليم كركوك. فإذا صحت هذه التوقعات فان الحدس الأقوى، في حال توغلنا في عقول الأطراف المعنية بالقضية، هو ان يصعب عليها الاتفاق على أي من هذه الخيارات. مع التمني بأن يكون هذا الحدس غير دقيق...