يوم واحد فصل، في مهرجان "كان" السينمائي، بين تقدم الفيلمين السياسيين الأبرز اللذين عرضتهما هذه الدورة في مسابقتها الرسمية، فيلم"تشي"للأميركي ستيفن سودربرغ، وفيلم"آل ديفو"للإيطالي باولو سورنتينو. وهنا إذ نقول"فيلماً سياسياً"فإننا نعني، تحديداً، سيرة لرجل سياسة تقدم عبر الشاشة. من ناحية المناضل المغامر الارجنتيني ارنستو تشي غيفارا، ومن ناحية ثانية جوليانو اندريوتي السياسي الإيطالي الداهية الذي شكل 7 حكومات وعين 20 مرة وزيراً وانتخب سيناتوراً مدى الحياة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية ليكون في نهاية الأمر السبب المباشر في انهيار الحزب الديموقراطي المسيحي الذي واصل حكم عقوداً بدت وكأنها لن تنتهي . الفوارق كثيرة بين الشخصيتين والحيزين الجغرافيين. ولكن أن يكون فيلماهما اجتمعا في"كان"، فإن هذا ليس سوى إشارة الى ازدهار سينما"السيرة"وسينما السيرة السياسية تحديداً، وهو أمر يلاحظ منذ سنوات. غير أن الجديد هذه المرة، بالنسبة الى اندريوتي تحديداً، وهو موضوع"آل ديفو"، اننا أمام سيرة لم تنته بالموت بل بالموت السياسي، والناتج كما يعرف متابعو أخبار إيطاليا عن تورط اندريوتي في علاقات مشبوهة مع المافيا، ومع سلسلة من الفضائح السياسية والمالية والإجرامية وصولاً الى محاكمته مرات ومرات. وهذا كله قدمه فيلم باولو سورنتينو، وإن في التباس مستغرب لا يتوخى، طبعاً، الدفاع عن اندريوتي ودرء التهم عنه، بقدر ما يرمي الى بث علامات استفهام وتعجب، ربما تكون هنا أكثر عدداً وإثارة للارتباك من أن يتحملها فيلم سينمائي يراد له أن يعرض عرضاً عالمياً. فالحقيقة انه إذا كانت حال اندريوتي معروفة في ايطاليا ومثيرة للجدل، فإنها في الخارج لا تتحمل ذلك. ورغم أن سورنتينو حاول أن يجدد في أسلوب السينما السياسية، ولها في إيطاليا تاريخ عريق، فإنه لم يوفق كثيراً في أن يربط بين الأسلوب المتوتر ذي النبض والبادي أشبه بفيلم تحقيق وثائقي ? وهو ليس كذلك، والتوليف الآتي من عالم"الكليب فيديو"، وبين موضوع وشخصية أراد أن يقدمهما لنا في غناهما. قد يكون اندريوتي سياسياً كبيراً، كما يريد الفيلم أن يقول، وقد يكون كاتباً لامعاً، يضاهي في ايطاليا البريطاني تشرشل لناحية المواهب الأدبية وابتكار العبارات الحادة والذكية، لكن هذا أتى في التوليف الذي جعله المخرج للفيلم، من خارج سياق أحداثه. أتى أشبه بتذكير بين الحين والآخر. فإذا أضفنا الى هذا امتلاء الفيلم بالموسيقى وطلقات الرصاص والجثث والشخصيات المزدحمة الآتية من المحلية الإيطالية الضيقة، يصبح المتفرج امام فيلم محير، قد يكون أسلوبه مسلياً، لكن"سياسيته"تبقي هذا المتفرج على ظمئه. أما الممثل البارع الذي لعب دور أندريوتي طوني سرفيلو، فإنه أدى دوره بتركيبة لافتة، ولكن في معظم الأحيان ايضاً على إيقاع يجعله جديراً حقاً بأن يكون في"كان"، ولكن على الرصيف بين أولئك الفنانين الهواة، الذين يلعبون أمام المارة أدوار المهرجين الصامتين. وهو أبدع حتى في هذا، من دون أن يكون لإبداعه أثر في فيلم من الواضح أن ادعاءاته الفنية أتت أكثر كثيراً من حجم موضوعه، ما جعل كثراً يشعرون بأن"آل ديفو"لم يتمكن من أن يعيد الى السينما الإيطالية، السياسية غالباً وبامتياز، لحظات ماضيها الزاهية الكبرى يوم كان لمبدعيها أسماء روسي، بيتري، وجيرمي.