أضاف ساسة الصراع الأهلي عبارة "الخط الوطني" إلى جعبة مفرداتهم، فاستحدثوا بذلك، خط انقسام سياسي جديداً الى"جبهة"قواميس المصطلحات المشتعلة. وكما في كل مناسبة سياسية، لا يترك أمر التفسير والتعليل للاستنساب الأهلي، لذلك تواجه المراقب العادي، المكتوي بنار البلاغة الأهلية، ضرورات تفكيك وتفنيد ودحض البيانات الصراعية، لسبب يتعلق باستمرار القدرة على إعمال المخيلة الواعية في ما يتداوله الأهل من خرافات، وفي ما يتبادلونه من ممارسات وارتكابات. في مناسبة الأحداث الدامية التي عاشها اللبنانيون أخيراً نسأل: هل ثمة خط وطني في لبنان؟ وعليه، هل من قوى وطنية لبنانية تعمل على إنجاح هذا الخط؟ نعتقد أن نصف الطريق إلى الجواب، يتطلب استعراض بعض من العناصر التأسيسية التي تجعل بنيان هذا الخط أو ذاك وطنياً، مثلما تتطلب استقراء بنية القوى التي تدعي أنها متشكلة من خليط وطني، فيه المشترك الجغرافي والمطلبي والثقافي والإيديولوجي... وكل ما يوحي فعلاً، بالسير في دروب المواطنية... التي هي وطنية عامة، بالتعريف، وعلى النقيض دائماً من كل فئوي خاص. لا تتوفر لأي خط سياسي، حزبي أو أهلي، صفة الوطنية إلا إذا تمثّل المصالح الكبرى العامة للمجتمع الذي يعمل في صفوفه، وإلاّ إذا عبر استحضار المصالح العامة الجامعة عن نفسه، من خلال الأسس الفكرية لأي"برنامج"، في الممارسة العملية، لقوى كل خط، وفي الوجهات المجتمعية التي تخترق المجالات الوطنية المشتركة. وطنية التوجهات الحزبية، أو الأهلية، ليست أحادية الجانب، أي ليست أحادية الفكرة، وغير مفردة الوسائل والأدوات. على هذا الأساس، تنفي الوطنية الشمولية، مثلما تنفي الانغلاق، وهي تبتعد عن إدعاء امتلاك"الحق الحصري"في التفسير والتعليل. على هذا المنحى، الفكر غير مقدس، وأدواته، أيضاً. لذلك تحمل"الوطنية"بدائلها، وتتيح تقليب الخيارات، أي أنها مفتوحة بالضرورة على التقدم في مجال سياسي واجتماعي، والتراجع في آخر، وقابلة لعقد الصفقات وإبرام التسويات، ومستعدة لقبول التنازلات، وتجنب كل ما يوصل"الحياة الوطنية"إلى الطريق المسدود. يكرس"الخط الوطني"وطنيته بتمسكه بالطابع السلمي لمسعاه، وبعمله الجاد من أجل تطوير الآليات الوطنية الديموقراطية، التي تكفل الحريات الفردية والجماعية، وتتيح سلاسة واستقامة بناء وتطوير المؤسسات"الرسمية"الناظمة لعمل الاجتماع العام، مثلما تساعد على تكريس مبدأ الاحتكام إلى القوانين، والعمل بمقتضى"التوافقات"التي صاغها"الجميع"في مواثيق ودساتير ومدونات ناظمة ومكتوبة... هكذا تصير سلمية الرؤية التغييرية أساساً لوطنيتها، لأنها تستبعد العنف والقهر والقسر، وهذا بحد ذاته كفيل بتحصين المشتركات الوطنية، وحماية إنجازاتها من التناثر والتبديد، في حال اعتمد العنف سبيلاً إلى تحقيق"التغيير"، من قبل طيف من الأطياف الوطنية. تخضع أهداف"الخط الوطني"، البعيدة والقريبة، لغاية كبرى هي: تطوير"الكينونة الوطنية"العامة، وترسيخ استقرارها. وهذه الغاية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقراءة المستنيرة للمستوى الراهن والحالي، الذي يميز هذه الكينونة، في مختلف أبعادها الداخلية ويطبعها بطابعه. كذلك يصير مفروضاً على الخط الوطني أن يجري حساباته السياسية المدققة، وأن يختار أهدافه ووسائله بعناية، بحيث لا يسعى إلى ديمومة السائد، الذي يجب أن يصيبه التطوير، ولا يتجاوز تجاوزاً عنفياً، على الواقع الذي يجب أن يكون مآله التغيير. قياساً على ما تقدم من سمات وعناصر، نراها ضرورية لوطنية أي خط سياسي، يمكن القول إن لا خطاً وطنياً اليوم في لبنان، وإن ما يواجهه اللبنانيون"العاديون"، تراشق بخطط وبرامج سياسية، مضمونها الأعمق الفئوية الحادة، وقشرتها الظاهرة، الوطنية الباهتة! وعلى ما نذهب إليه، يمكن حشد وقائع وأحداث، ليس آخرها ما أحاط ب"المواطنين الآمنين"، من اقتتال منفلت طاول أرزاقهم والأعناق. عنوان"الخط الوطني"الأخير، الذي رفعت شعاراته حاجزاً بين القوى المتصارعة هو: العداء لأميركا ولإسرائيل! نستطيع القول إن العنوان مفتعل، لأن القسمة اليوم، ليست بين مرتبط ب"عدو الأمة"، ومدافع عن"وجودها"، بل الأجدى القول إن كل فريق لبناني"أميركي"بمقدار، أي بنسبة تساوي،"أمركة"الحليف الخارجي لهذا الفريق، وتتواءم مع درجة صراع هذا الحليف للاندراج ضمن"الأمركة"العامة، بشروط داخلية مقبولة من هذا النظام الخارجي أو ذاك. بعد هذه الخلاصة لنقل: لنفترض أن الأمر هو أمر مواجهة الأخطار الخارجية على لبنان، أي أمر نقاش"المهمة الوطنية"العامة، التي تفترض باللبنانيين النهوض للدفاع عن مصالحهم المشتركة في وجه الانتقاص الخارجي منها، ومحاولة التعدي عليها، هذا يدعو إلى فتح أوسع حوار حول السبل الأنجع لإدارة المواجهة الأنجح، مثلما يتطلب الوصول إلى القاعدة"الاجتماعية"اللبنانية الأوسع، لتأمين توافقها حول الكلفة الواجب دفعها، والقبول على اضطرار"وطني"لدفعها. ما حصل بالأمس القريب، لم يسلك طريق الوحدة للوصول إلى صوغ"وفاق الحد الأدنى"حول ما يعتقد أنه"الخط الوطني"الأصوب، بل إن ما جرى كان عملية فرض لرؤية أحادية، أهلية، على الأطياف الأهلية الأخرى. هذا يفتح النقاش على مسألة"الديموقراطية"، التي يجب أن تكون ممر اللبنانيين إلى وحدتهم، أي إلى خياراتهم العامة الموَحدة والموحِّدة، التي تشكل خلاصات لحواراتهم الواسعة، ولقناعاتهم المشتركة، ولإراداتهم"المتساوية"في مواقع القرار، وفي ميادين التنفيذ. * كاتب لبناني