مرة أخرى تتفوق نساء السينما العربية على رجالها في"مهرجان كان السينمائي الدولي". مرة أخرى يتجاور اسمان انثويان عربيان الى جانب اسماء سينمائيين من مختلف بقاع العالم على لائحة المهرجان السينمائي الأعرق. في الدورة الماضية فعلتها اللبنانيتان نادين لبكي "سكر بنات" ودانيال عربيد "الرجل التائه" التي عادت الى"كان"بعد فيلمها الأول"معارك حب". وهذه المرة كان الحظ من نصيب الفلسطينية آن ماري جاسر واللبنانية جوانا حاجي توما التي يشاركها زوجها خليل جريج الإخراج. وتوما - جريج ليسا زائرين جديدين في"كان". ففي الموسم الماضي، شاركا في تظاهرة"كل سينمات العالم"، لتسليط الضوء على قضية حساسة في لبنان، قضية مخطوفي الحرب، من خلال فيلمهما الروائي الطويل الثاني"يوم آخر". كما كانت لهما فرصة عرض مشروعهما الجديد أمام منتجين وممولين محتملين ضمن إطار برنامج خاص بلبنان أقيم يومها ضمن فعاليات المهرجان. اما هذه المرة فيدخلان"كان"من الباب الواسع، وتحديداً من طريق تظاهرة"نظرة ما"الموازية للمسابقة الرسمية. الفيلم هو"بدي شوف". ونجمته لا ككل النجمات. إنها الممثلة الفرنسية كاترين دونوف التي فاجأت الجميع بوجودها في بيروت قبل سنة تقريباً لتجيب عن أسئلة أرهقت المخرجين: كيف نصور حرباً مدمرة مثل تلك التي عشناها في تموز يوليو 2006؟ وكيف نواصل صناعة الأفلام والإيمان بالسينما بعد كل ما عشناه؟ ثم ماذا تستطيع الكاميرا أن تفعل أمام كارثة كهذه، خصوصاً في المجال الروائي؟ أمام هذه الأسئلة تخيل المخرجان ممثلة صارت أيقونة عالمية لتكون بطلة فيلمهما. والحلم سرعان ما تحول الى حقيقة حين وافقت كاترين دونوف على السير في هذا المشروع، والتوجه الى بيروت. ولا يخفي المخرجان أن دونوف كانت منذ البداية الممثلة التي حلما بها لهذا الفيلم، ويقولان:"لقد كتبنا الفيلم من أجلها، ونحن نفكر فيها... وقد منحتنا أجمل هدية بموافقتها على لعب الدور". شكل الفيلم يشبه الى حدّ ما فيلم"هيروشيما، يا حبي"للمخرج الان رينيه لناحية اللقاء بين ممثلة وشاب عادي على دروب واحدة لاقتفاء آثار حرب مدمرة. وربما يجيب عنوان فيلم توما - جريج عن جملة شهيرة في تاريخ السينما العالمية مأخوذة من فيلم رينيه، وهي"لم ترِ شيئاً في هيروشيما"؟ التي تأتي في سياق حوار بين بطلي الفيلم، حين يسأل البطل الياباني البطلة الفرنسية، إذا ما كانت قد رأت شيئاً في هيروشيما، فتجيبه:"لقد رأيت كل شيء". لكن هذا الجواب لن يروق بطلنا، فيكرر:"انت لم ترِ شيئاً في هيروشيما؟". الجواب هذه المرة لن يأتي على لسان إيمانويل ريفا إنما على لسان المخرجين اللبنانيين اللذين يقول لسان حال كل واحد منهما:"بدي شوف"باللهجة العامية اللبنانية، أي أريد ان ارى. فأهوال الحروب واحدة، وآثارها المبيدة واحدة، والنظرة لن تكون ذاتية حين يستعان بممثلة فرنسية لاقتفاء أثر الحرب. طبعاً سيرى كثر تشابهاً ليس فقط بين أسئلة فيلم"بدي شوف"وأسئلة رينيه في"هيروشيما يا حبي"، بل كذلك بين سياق فيلم توما - جريج وسياق فيلم لبناني آخر حقق بسرعة بعد ولادة مشروع هذين السينمائيين الشابين، ونعني طبعاً فيلم"تحت القصف"للمخرج فيليب عرقتنجي الذي استعان بالحبكة ذاتها، والحرب ذاتها، والجنوب ذاته... وإن لم يطرح الأسئلة ذاتها بالطبع. والأكيد أن"بدي شوف"فيلم اكثر صعوبة، طالما أنه يطرح نظرة ممثلة من الخارج الى الداخل. هنا لا يمكن للأجوبة ان تكون سهلة وجاهزة كما هي الحال في فيلم"لبناني خالص". يضاف الى هذا، ان المخرجين يستمتعان بالعمل بأسلوب الارتجال الذي يضع صاحبه أمام حافة الهاوية في كل لحظة. ففي هذا الفيلم لا سيناريو جاهزاً، ولا حوارات مكتوبة. فقط خيط رفيع يقود بطليه، كاترين دونوف وربيع مروة، اللذين يأخذان المشاهد في رحلة الى لبنان بين دروب الضاحية الجنوبية المدمرة ووسط المدينة وصولاً الى الجنوب بحثاً عن بيت جدة مروة. وخلال هذه الرحلة يترك المخرجان لبطليهما حرية التعبير، مع الحرص على انتزاع ما يريدان تمريره من لدنهما في فيلم رسما له الإطار العام، ويدركان جيداً الغاية من ورائه. الفيلم الذي يرواح بين الوثائقي والروائي يأتي ليكمل مسيرة توما - جريج مع أفلام الحرب. فبعد الفيلمين الروائيين"البيت الزهر"و"يوم آخر"اللذين يصوران بعضاً من آثار الحرب اللبنانية الماضية، سواء ما يتعلق بالتهجير او ما يتعلق بالاختطاف على الهوية، وبعد مجموعة أفلام قصيرة ووثائقية، يدنو الفيلم الجديد من الحرب الأخيرة، حرب تموز 2006، ليطرح الأسئلة، من دون أن يقدم نفسه على انه عارف بالحلول. وفي انتظار عرض هذا الفيلم في"كان"، يبقى السؤال: هل سيتمكن الجمهور الغربي من ان يرى شيئاً جديداً من حرب تموز؟