على عكس السور الذي لا يزال يحظى عند اليمنيين بأهمية كبيرة مذ كان حزاماً يحوّط المدينة القديمة ويحميها من الهجمات، تبدو البلكونة، من زاوية الوظيفة الاجتماعية، زائدة على المبنى. وباستثناء حالات محدودة في المدن الحارّة مثل عدن والحديدة وتعز، يندر أن أعطيت للبلكونة وظيفة فعلية، بما هي فضاء للتلاقي، سواء بين أفراد الأسرة أو مع الضيوف. والراجح أن اعتبار الانسان مقياساً قامت عليه المدينة العربية، على ما يقول عفيف بهنسية في كتابه"جمالية الفن العربي"، هو أمر يعكس نفسه تبعاً لتحولات الثقافة الاجتماعية، واختلافها بين منطقة واخرى. وكان طراز العمارة اليمنية على ما تجسده مباني صنعاء القديمة وشبام حضرموت، خلا تماماً من البلكونة والشرفة. الا أن الأمر لم يدم طويلا، إذ بات واضحاً أن مفاعيل الحضارة الغربية وهندسة العمران فيها، سحبت نفسها على شكل التمدن العربي. وكان لما تركته الاحتلالات التركية والأوروبية للمنطقة الأثر البارز في صوغ شكل العمارة العربية الحديثة، التي لا تعكس تماماً الواقع القيمي لعيش الانسان العربي. وبحسب نادية الكوكباني، أستاذة العمارة في جامعة صنعاء، لم تعرف العمارة اليمنية الحديثة البلكونة سوى في مدينة عدن، مطلع خمسينات القرن العشرين. وبعد إطاحة حكم الأئمة الذين حكموا شمال اليمن، قبل 1962، أخذت البلكونة تنتشر في صنعاء، لأسباب توجزها الكوكباني برفض اليمنيين، في ذلك الوقت، كل ما يتصل بالقديم في الشكل ومادة البناء، واعتباره رمزاً للتخلف. وتشير إلى أن ذلك الأمر تزامن مع انتقال عدد كبير من رجال الأعمال من عدن إلى صنعاء، واستخدامهم البلكونة في المباني التي انشأوها. واستعين بخبرات مصرية، في ذلك الوقت، لتصميم ما يناسب البيئة المحلية. وواضح أن الاجتماع الانساني في اليمن يترادف مع السور والحوش، وربما أيضاً مع سطح المنزل، أكثر منه مع البلكونة التي بدأ استخدامها، المحدود أساساً، ينحسر مع شيوع موجة الحجاب، ما أدّى إلى"طربلة"سد البلكونة في عدد من المدن اليمنية، لا سيما في صنعاء. ويتعمّد المهندسون المعماريون تطعيم البناء الحديث بالبلكونة، الا أنها ما زالت تزيينية اكثر منها لتلبية وظيفة أو تلبية حاجة اجتماعية. حتى ذلك الطراز المميز للشرفة، الذي نألفه في المباني الانكليزية، في الشارع الرئيس لمنطقة المعلا في عدن، وقد بقيت بلكوناتها المصفوفة والمتجاورة تمثل حتى وقت قريب متنفساً للعائلة والشبّان والشابات، يقصدونها للحديث او المذاكرة والاستماع الى الأغاني والموسيقى او للتخفف من الحر مع دنو الغروب... حتى هذا المشهد، على ندرته، لم يعد على ما كان عليه. ويبدو أن الحجاب الذي يجتاح الحضر، بات يطاول أيضاً شرفاتها فأضحى بعضها محجوباً بالستائر وپ"الطرابيل". وتلفت الكوكباني الى الامتداد والاطراد الذي ما زال يحوزه السور، لتؤكد أن التشوهات التي صارت عليها المباني السكنية، مثل تحويل البلكونة إلى غرفة زائدة، بمواد بناء مغايرة للمواد الأصلية، هو أمر يحتاج إلى دراسة تقف على أسباب التحولات الاجتماعية التي أدت الى ذلك، كما تقول. وتشير أستاذة العمارة إلى أن السور في العمارة اليمنية الحديثة، وإن كان لا يزال يعد وسيلة حماية وحفاظ على الخصوصية، تؤدي التجاوزات الحاصلة في بناء بعض الأسوار المبالغ في ارتفاعها، إلى تشويه المدينة وتكوينها البصري. ويحرص الذين يبنون منازل خاصة على وجود سور يحيط المنزل، كسياج يحول دون رؤية النساء، بخاصة. وفي المناطق الحارة، يمثل"الحوش"فضاءً لاجتماع العائلة للسمر أو تناول القات. ويتجه بعض العائلات المترفة، خصوصاً في صنعاء، إلى بناء حمامات سباحة، تفرض إعلاء السور إلى مستويات تصل أحياناً الى مستوى ارتفاع المنزل. وتلفت الكوكباني إلى ما يؤدي إليه إعلاء الأسوار وبناؤها بمواد مختلفة عن مواد البناء من تعتيم للمبنى وخدش لجمالياته، مرجعة ذلك إلى عوامل عدة، منها الهجرة من الريف إلى المدينة الذي ترى الكوكباني أنه ساهم في اختفاء كثير من الأعراف والتقاليد الاجتماعية المنظمة لعملية البناء. وأصبحت الأسوار العالية وسيلة لتلافي المشاكل المحتمل حدوثها. ويضاف إلى ذلك غياب القوانين المحددة لنسق المدينة وتكوينها الحضري في شكل عام، ومنها تحديد ارتفاعات السور ومادة بنائه. وتشدد الكوكباني على ضرورة أن لا يترك هذا الأمر للأفراد مجالاً ليفعلوا ما يشاؤون، داعية إلى الاقتداء بدول ساهمت القوانين فيها بتميز تكوينها المعماري والارتقاء بالحس الجمالي، ومنوهة بما هو حاصل في الأردن والمغرب وتونس، كمثال على أهمية سن القوانين.