اختُتم أمس، منتدى "أشغال داخلية 4" الذي نظّمته جمعية "أشكال ألوان" في بيروت، مخلّفاً وراءه غبطة وعلامات استفهام وتعجّب، في أذهان من تابعوا نشاطاته التي تنوّعت بين العروض الادائية والراقصة، وأفلام الفيديو والمعارض والمحاضرات والندوات والمنشورات. خلال 8 أيام متتالية، طرح المنتدى عن الممارسات الثقافية، أكثر المواضيع إثارة وجدلية في حياتنا اليومية. ففتح المجال لحوارات خارجة عن المألوف، بين لبنانيين وأجانب وعرب تهافتوا الى مسرحي"المدينة"و"مونو"وغاليري"صفير- زملر"، وغاليري"أجيال"، وصالة"بلانيت ديسكوفري". نجح المنتدى في طبعته الرابعة، ببلوغ هدفه وهو"إعادة الاعتبار لحياة المدينة الثقافية واحتضان التجارب الطليعية في مختلف مجالات الابداع". ولم تكتفِ مديرة"أشكال ألوان"كريستين طعمة والفريق العامل في الجمعية، بإتاحة الفرصة للجمهور لمتابعة عروض عالمية نادرة، بل ساهمت من خلال المنتدى للمتابعين بالابتعاد من الزاوية النمطية التي حشرتهم الظروف السياسية والاجتماعية فيها للتفكير من خلالها، بالتالي أمّن المنتدى مساحة لطرح أفكار ليست جديدة إنما من زاوية جديدة. وفتح المنتدى حواراً بناء، واستفزّ أذهان الجمهور الذي كان معظمه يخرج من المحاضرات حاملاً كمّاً هائلاً من التساؤلات حول تفاصيل حياتنا اليومية، كالجنس والحب والحرب والانتحار والإرهاب والمقاومة وحقوق الانسان ونهب الآثار وغيرها. ومن الندوات والمحاضرات التي ألقيت،"لماذا ننتحر: قراءة في العمليات الاستشهادية"تحدث فيها كل من حازم صاغية وحازم الأمين وحسام عيتاني ووسام سعادة وبشار حيدر وربيع مروّة. ثم"فليكن"وهو حوار حول عروض أفلام وفيديو أعدّها أكرم زعتري، و"العمل في القطاع الخاص"تحدث فيها المهندس برنار خوري حول بناء ثقافة التسلية من خلال الهندسة المعمارية. وتناولت ندى شموط في محاضرة بعنوان"اغتصاب التاريخ: الفنون والآثار والفنانون العراقيون"، أعمال النهب والسلب والتدمير التي تعرض لها المتحف العراقي للفن المعاصر و"سياسة الإبادة المتّبعة لتطهير الذاكرة الجماعية العراقية من المظاهر التاريخية"، فضلاً عن أوضاع الفنانين والإنتاج الفني العراقي الحديث. كما بحث كل من تي جي ديموس وإرين أنسطاس ورينيه غابري في ندوة بعنوان"ومع ذلك ما زالت الأمور تجري كما في السابق"، في جغرافيات الاقصاء السياسي في أميركا وفلسطين- اسرائيل، عبر استراتيجيات جمالية تجريبية. وتميّز الفلسطيني نجوان درويش في البحث حول"الصورة الجنسية لإسرائيل في المخيّلة العربية". ومن إيران حيث يعود تاريخ التصوير الفوتوغرافي الى 165 سنة، سرد كل من بهمان جلالي ورنا جوادي تاريخ هذا الفن الذي دخلت معداته الى البلاد بعد سنوات قليلة من ابتكارها في أوروبا، من طريق أمبراطور روسيا وملكة انكلترا اللذين أهديا الملك القاجاري محمد شاه، جهازي تصوير"داغيريوتايب". ولمناسبة إتمام مترو الأنفاق في القاهرة عامه العشرين، عرض هاني"لهذا الوحش المعدني الذي هبط من سطح المدينة الى أعماقها الأرضية"، وغاص في هذه التجربة"الأقرب الى جراحة ديموغرافية موقتة لتنظيم تدفق طابور الحالمين باقتحام المدينة". وتساءل ما إذا كان المترو"رحم المدينة الحديدي أم بيت مراياها الطارئة، فهو فيما ينقل الناس من أطراف العاصمة ومداخلها، أعاد التمركز في أنوية صلبة حولها لم يكن مقدّراً لها النمو، مكسوة بمكياج الحداثة المدينية، يمثّله حضور الوحش الكهربائي، فيما أقدامها لا زالت ترزح في أوحال ما قبل التصنيع". أما فالح عبد الجبار فحاول معاينة الأدوار المختلفة لبُنى"الرمزية الدينية، الجماعة المقدسة والدولة الحديثة"في المنطقة العربية. وشرح كيف انتقلت من المنطقة الامبراطورية المقدّسة العثمانية الى الدولة الحديثة أي من فكرة الجماعة المقدسة الى فكرة المجتمع الحديث، وكيف انتقلت معها البنى الاجتماعية من الجماعات المغلقة طوائف، قبائل، أحياء، أُسر الى الجماعة المفتوحة الأمة، كما تطرّق الى تحوّل المنطقة العربية من الثقافة الميثولوجية والميتافيزيقية ? الأبجدية الى الثقافة الحديثة، ما بعد الأبجدية. ومن بين نشاطات المنتدى الكثيرة، ثمانية أعمال فنية عُرضت في غاليري"صفير - زملر"في منطقة الكرنتينا شرق بيروت، في عناوين ومواضيع مختلفة. لكنها تشكّل مجتمعة مادة توثيقية معاصرة، لأفكار وحيثيات وتبدّلات من صلب حياة العالم العربي، شارك فيها كل من كمال الجعفري في"ألبوم"، زياد عنتر"إيقاع"، فلاتكا هورفات وتيم إيتشيلز"إسقاط منزل"، ومايكل راكوفيتس"لا وطأة للعدو الخفي"، مروان رشماوي"الطيف"، جلال توفيق"فن ثانوي"، وليد صادق"أن نتعلّم كيف نرى أقلّ". ومن أبرزها التجهيز الفني للفلسطينية إميلي جاسر"مادة من أجل فيلم"الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في"بينالي"البندقية الأخير، وتبحث فيه عن تفاصيل حياة الديبلوماسي والأديب الفلسطيني وائل زعيتر الذي اغتاله الموساد الاسرائيلي في روما في 16 تشرين الأول أكتوبر 1972. وهو مشروع متواصل قائم على البحث بدأته في عام 2005، يجمع بين السينما والصورة الفوتوغرافية والكتب والتسجيلات الصوتية والرسائل المكتوبة للأهل والحبيبة بخط اليد، والأغراض الشخصية. وتكمن قوّة العمل في البحث الدقيق الذي اتّبعته جاسر في تقصيها عن حياة الرجل. فهي سافرت الى روما والتقت أصدقاءه، ثم الى بيت طفولته في نابلس حيث التقت أخته نائلة. وأخذت صوراً كثيرة ومعبّرة لهاتين الرحلتين، كالشقة التي سكن فيها زعيتر والمقاهي والمطاعم التي ارتادها وبيت صديقته جانيت. صورة صغيرة بالأبيض والأسود تنقل لحظة دخول الرصاصة التي أردت زعيتر، الى جسمه، وضعتها جاسر في مقدّمة العمل بمثابة عنوان. ثم تتتالى الحكاية كمشاهد منفصلة، بدءاً بطفولة الرجل الذي أثار اغتياله استنكاراً واسعاً لكونه من أوائل الديبلوماسيين الذين طاولتهم الاغتيالات في أوروبا. وكانت جاسر مصرّة على إظهار فظاعة الاغتيال، فبحثت عن كتاب"ألف ليلة وليلة"الذي كان يحمله لحظة الجريمة وكان يحمل على ترجمته الى الإيطالية. فصوّرته لتقرّب المشاهد من قلب الحدث. وصوّرت كتباً كثيرة وجدتها في بيت زعيتر، وعمدت الى ثقبها برصاصة المسدس نفسه الذي قتل فيه. ولمن لا يعرف وائل زعيتر الذي تطرّق المخرج ستيفن سبيلبرغ الى اغتياله في مشهد من فيلم"ميونيخ"، فإميلي جاسر كفيلة بأن تعرّفه اليه من خلال عملها المتقن الذي يمكننا القول إنه يختصر جزءاً مهماً من معضلة الاغتيالات الفلسطينية. فيشعر الناظر الى هذا الكمّ الهائل من المواد المستعملة، كأنه معنيّ شخصياً باغتيال هذا الرجل. يشعر عند خروجه من المعرض بأنه تعرّف الى شخص للتوّ كأنه صار صديقه الحميم الذي يعرف عنه كل شيء، حتى أنه شاهد اغتياله. هو عمل استفزازي لذاكرتنا العربية المثقوبة كما ثقب جسد زعيتر.