لا أدري إن كان إيميه سيزير، شاعر الزنوجة الذي رحل قبل أيام عن 94 عاماً في المارتينيك، وطنه الأم، قد ترجم الى العربية مثلما تُرجم صديقه الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور. لكنه حتماً لم يُعرف عربياً كما عُرف شعراء اليسار العالمي، لا سيما في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم. فهو الذي انتمى الى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1945، لم يلبث أن استقال منه بعدما اجتاح الجيش الروسي المجر عام 1956، وكأنه لمس في الشيوعية ضرباً آخر من"الكولونيالية"التي ناضل ضدها طوال حياته. بل كأنه رأى فيها صلافة الغرب أيضاً،"الغرب القابع على كومة من جثث الإنسانية"بحسب تعبيره. كان إيميه سيزير أول شاعر يستخدم كلمة"زنوجة"في قصيدة له طويلة هي"مفكرة العودة الى البلاد الأم"، وقد نشرها في باريس عام 1939. ثم راح يعمل مع سنغور الذي تعرّف إليه في باريس، على ترسيخ هذه الكلمة كمصطلح سياسي واجتماعي. لكنه في قصيدته البديعة تلك منح الزنوجة مفهوماً إنسانياً عميقاً وشاملاً وأبعاداً فلسفية وتراجيدية أو قدرية. وقد شغلته قضية الزنوجة حتى كادت تسيطر على شعره وفكره ونضاله. فمن خلالها نظر الى العالم والى ما وراء العالم، الى الواقع والنفس، الى التاريخ والحرية. وسعى كما يعبّر الى"إطلاق صرخة زنجية قوية، ترج بصلابتها مداميك العالم". وهكذا فعل حقاً وأصبح شاعر الزنوجة، الزنوجة المتحررة من ربقة الماضي الكولونيالي والذل والعبودية والعنصرية. ومعه، مثلما مع سنغور وسواه من الشعراء السود، راحت"الزنوجة القديمة تتحول جثة"كما يقول، وشرعت تولد"زنوجة"جديدة انطلاقاً من اللون الأسود نفسه الذي أصبح لون الحرية، ومن الذاكرة الأصيلة والمخيّلة والحق بالحياة والمساواة... حرر سيزير مقولة الزنوجة من ظلامية العصور القديمة التي جعلت الأسود في مرتبة دنيا وكأنه إنسان على حدة، لا تليق به الحياة. لعل قصيدته"مفكرة العودة الى البلاد الأم"من أهم القصائد التي عرفها القرن العشرون. قصيدة صعبة ومعقدة وبسيطة في آن واحد. وعندما نشرها في العام 1939 سرعان ما عرفت رواجاً راح يتسع مع طبعاتها المتعاقبة في فرنسا وأفريقيا الفرنكوفونية بل في العالم أجمع. يقول بروتون في المقدمة التي كتبها لهذه القصيدة:"شعر إيميه سيزير جميل مثل الأوكسيجين الجديد". وأطلق عليه لقب"الشاعر الأسود الكبير"قائلاً:"هذا الأسود يطوّع اللغة الفرنسية كما لو أن ليس من رجل أبيض اليوم ليطوّعها". ولم يكن مستغرباً أن تغري هذه القصيدة التي غزت الجامعات والمدارس أندريه بروتون، فهي لم تكن غريبة عن المفاهيم السوريالية على رغم جوّها"الزنوجي"ونبرتها التحررية والتزامها. قصيدة متحررة من أسر الصوت الواحد والنمط الواحد، فيها تتآلف الغنائية"السوداء"المجروحة والبعد الذاتي أو الأوتوبيوغرافي والاحتجاج والجنون والهذيان... إنها"القصيدة المضادة"بامتياز كما حلم بها سيزير دوماً. وكان لا بد للشاعر الزنجي من أن يصادق السورياليين ويقترب منهم، فالشعر هو"السلاح العجيب"كما يعبر عنوان أحد دواوينه، السلاح الذي عبره تتم مواجهة العالم والتاريخ، وعبره أيضاً يتم تحرير الإنسان، أبيض كان أم أسود. يكتب سنغور عن صديقه:"يوفّق سيزير بين الحلم والفعل، الحلم لديه فعل بفضل"السلاح العجيب"المستخرج من مستودع الزنوجة القديم". ويرى أن"بركان مشاعره انفجر في أعماق زنوجته". أما سيزير فيصف الزنوج في قصيدته الشهيرة قائلاً:"أولئك الذين لم يخترعوا البارود والبوصلة، أولئك الذين لم يسيطروا على البخار والكهرباء، أولئك الذين لم يكتشفوا البحار ولا السماء، أولئك الذين لم يعرفوا من السفر إلا الاقتلاع...". إنها صورة جارحة تعبّر عن حال الفقر والتخلف اللذين يحاصران عالم الزنوج من جراء الظلم الذي ألحقه بهم المستعمر الأبيض. ويقول عن زنوجته:"زنوجتي ليست حجراً، زنوجتي ليست برجاً ولا كاتدرائية، زنوجتي تغوص في الجسد الأحمر للأرض، تغوص في الجسد المتّقد للسماء". ومثلما ثار إيميه سيزير على الزنوجة القديمة ثار أيضاً على اللغة القديمة والأشكال الشعرية التقليدية هاتكاً رهبة اللغة الفرنسية التي كان يجيدها تمام الإجادة. وبدا شعره على مقدار من القسوة والغنائية والفانتازيا. شعر طالع من الأحشاء مثلما هو طالع من القلب ومن اللاوعي والحلم والمخيلة. يقول سيزر واصفاً الشاعر:"الشاعر هو ذاك الكائن القديم جداً والحديث جداً، الشديد التعقد والشديد البساطة، الذي يبحث، على التخوم الحية للحلم والواقع، للنهار والليل، بين غياب وحضور، ووسط الانطلاق المفاجئ للنكبات الداخلية، عن كلمة السر ويتلقاها...". كتب إيميه سيزير الكثير من الشعر والنصوص المسرحية، وعرفت أعماله نجاحاً كبيراً ونشرت في أبرز الدور الفرنسية وكتبت عنها أبحاث ومقالات لا تحصى. تُرى متى يكتشف العالم العربي هذا الشاعر الكبير الذي صرخ بملء صوته صرخته الشهيرة:"زنجي أنا وزنجياً سأبقى؟"أليس العالم العربي مدعواً الى قراءة ? وإعادة قراءة ? أحوال الزنوجة في أعمق تجلياتها؟