على رغم تخصيص إحدى الهيئات العسكرية السيادية التابعة للدولة لتنهض بالمسؤولية التنظيمية عن إجراءات الأمن القومي، فإن هذا الأمن القومي باعتباره مفهوماً استراتيجياً يظل مسؤولية عامة شاملة وفرض عين على الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها وقطاعاتها، وعلى المجتمع بكل مؤسساته وفئاته وأفراده، ومع ذلك فإن مفهوم الأمن القومي يحظى في مصر باهتمام مجتمعي منخفض ومشوش وملتبس، الأمر الذي يمكن إرجاعه الى أسباب عدة أبرزها الآتي: 1- حداثة مفهوم الأمن القومي بمعناه الإستراتيجي أحد فروع العلوم والثقافة السياسية العامة في مصر مع اقتصار تدريسه على عدد محدود جداً من المعاهد الأكاديمية الشديدة التخصص والمغلقة في شكل شبه سري على بعض موظفي الدولة دون غيرهم. 2- التباس المفاهيم في الذهن المجتمعي بين مصطلحي الأمن القومي والأمن الوطني، فكل من يستخدم مصطلح الأمن القومي المصري يعلم أنه من ناحية المفاهيم اللغوية خطأ شائع بينما المصطلح السليم لغوياً هو الأمن الوطني المصري ذلك أن حدوده هي الحدود القطرية للوطن المصري الذي هو مجرد جزء - وإن كان الأهم - في الدائرة القومية للوطن العربي الممزق إلى أجزاء وأقطار. وعليه يمكن من ناحية الدقة في اللغة والمفاهيم استخدام مصطلح الأمن القومي العربي فقط عند ظهور الوطن العربي الموحد بصرف النظر عن الأهمية القصوى للدائرة القومية العربية في الأمن الوطني المصري. 3- التباس المفاهيم في الذهن المجتمعي بين الأمن القومي بمعناه الاستراتيجي الشامل والمجرد وبين الإجراءات التنظيمية المحددة التي تتخذها الهيئات المسؤولة عن حماية الأمن القومي وحماية أمن الدولة وحماية أمن النظام وحماية أمن الحاكم ... إلى آخره، بما يؤدى إليه هذا الالتباس من تحميل المفهوم الاستراتيجي للأمن القومي تبعات ما يمكن أن تقع فيه الهيئات المذكورة من شطط أو خطأ أو انحراف. 4- فرض الهيئة السيادية المسؤولة عن اتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لحماية الأمن القومي إطاراً محكماً من السرية الحديدية على نشاطاتها، وعلى رغم حتمية أن تلتزم الهيئة المذكورة وتلزم المتعاملين معها بهذا الإطار السري إلا أنها تتمادى أحياناً في توسيع نطاقه ليلقي بظلاله على الأمن القومي كمفهوم استراتيجي لتخويف مخالفيها في الرأي من السياسيين المحترفين غير المنتمين أو المتعاملين مع الهيئة بهدف إسكات أصواتهم المعارضة، ما يؤدي إلى غياب اجتهادات نظرية مفيدة لكل الأطراف المجتمعية والرسمية بما في ذلك الهيئة المعنية ذاتها. 5- اقتصار ما يظهر للمجتمع من معلومات تتعلق بالأمن القومي على ما تسمح به الهيئة المعنية، وهو لا يخرج عن نوعين: أولهما مصدره الخبرات الإيجابية المسموح بتناولها فنياً ودرامياً في وسائل الإعلام لرفع الروح المعنوية لدى الشعب، والثاني مصدره التجارب السلبية التي تُكشف في إطار عمليات التطهير الداخلي والتصحيح التنظيمي, وكلاهما يميل إلى الإثارة والتشويق والغموض البوليسي على حساب الحقائق العلمية الباردة التي قد لا تعجب جمهور"الترسو"ومدرجات الدرجة الثالثة في دور السينما القروية والساحات الرياضية الريفية!! 6- الحاجز النفسي المجتمعي بسبب الخلل التربوي في معظم العائلات المصرية البسيطة التي تعتمد في تربية صغارها على تخويفهم من"العسكري"، وهو الخوف الذي ينمو مع هؤلاء الصغار وهم يكبرون وينتشرون في مختلف مناحي الحياة لتترسب في لا وعي الذهن المجتمعي مخاوف غيبية تصل إلى درجة الوساوس تجاه كل ما له علاقة من قريب أو بعيد في الشأن"العسكري". 7- كثافة النشاطات التي يمارسها أعداء الوطن والشعب لكسر جدار الأمن القومي المصري وتفكيكه في إطار سعيهم الى تحقيق مصالحهم المعادية باستخدام أسلحة عدة من بينها الدعاية التخريبية الموجهة والتي تتعمد إثارة الخلط والتشويش والالتباس الذي يرغبون في أن يؤدي إلى التخبط والارتباك وقطع ما هو ضروري لمنظومة الأمن القومي من تواصل بين المفهوم الاستراتيجي والإجراءات التنظيمية والوعي المجتمعي، الأمر الذي يسعون من خلاله إلى فتح ثغرات تمر منها المصالح المعادية لتفرض نفسها على الوطن أمراً واقعاً. السياسة الخارجية المصرية والديبلوماسية... من الطبيعي أن يكون للأمن القومي المصري باعتباره مفهوماً استراتيجياً الكثير من التجليات التكتيكية التي تترجمه على أرض الواقع مثل السياسة الخارجية المنوط بها تحديد دوائر العلاقات الخارجية ومحاورها وكيفية التفاعل الإيجابي مع المتغيرات في الأوضاع الإقليمية والعالمية، بل وكيفية دفع هذه الأوضاع في الاتجاهات الأصلح للأمن القومي المصري، كذلك تحديد أهداف الحركة الخارجية على المديين المتوسط والقصير لتوسيع مجالات ونطاقات تبادل المصالح والمنافع المشتركة ولفتح مجالات جديدة للتنسيق والتعاون والتحالف ولتحقيق المواءمات والتوازنات التوفيقية بين المصالح المتعارضة في مختلف الساحات الإقليمية والعالمية والمتعلقة بالمجالات والنطاقات ذات الصلة بالأمن القومي المصري. وتستخدم السياسة الخارجية في ترجمتها لمقتضيات الأمن القومي وسائل تنفيذية ميدانية عدة مثل الديبلوماسية التي هي الإطار الواسع من الحماية المتفق عليها عالمياً لضمان حرية الحركة الوطنية اللازمة داخل الحدود الجغرافية والسياسية للأوطان الأخرى. وتستخدم الديبلوماسية في تنفيذها السياسة الخارجية أدوات عدة تشمل في ما تشمله الديبلوماسية الرسمية المعنية بالاتصال البروتوكولي والمراسمي بين السلطات التنفيذية للدولتين والديبلوماسية الدفاعية المعنية بتنسيق الإجراءات الوقائية محل الاهتمام المشترك للهيئات العسكرية والشرطية والأمنية في الدولتين والديبلوماسية التجارية المعنية بجلب الاستثمارات وتبادل رؤوس الأموال وفتح الأسواق أمام رجال الأعمال من الطرفين. والديبلوماسية الخدمية المعنية برعاية أحوال العمال والطلاب والمرضى من أبناء الوطن والموجودين في الأوطان الأخرى، وأخيراً الديبلوماسية الشعبية المعنية بالسعي الى تحقيق التواصل المجتمعي الشامل بين الشعب المصري والشعب المضيف عبر الوجود الحي والمشاركة المباشرة في مختلف نشاطات المؤسسات المجتمعية غير الرسمية، سواء كانت مؤسسات تقليدية كالقبائل والعشائر والطوائف والطرق والمشيخات أم كانت مؤسسات حديثة كالأحزاب والنقابات والأندية والاتحادات والجمعيات الأهلية أم كانت مؤسسات رأي عام كالإعلام والصحافة والآداب والفنون والرياضة، مع دفع المؤسسات المجتمعية ومؤسسات الرأي العام ذات المصالح والمنافع المشتركة أو المهتمة بمجالات ونطاقات متشابهة لدى الطرفين نحو التلاقي الحي والمشاركة المباشرة في نشاطات مشتركة هنا أو هناك سواء كانت هذه النشاطات طبيعية وعفوية أم مرتبة ومفتعلة. وتسمح المشاركة المباشرة للديبلوماسية الشعبية برصد مختلف التطورات في اتجاهات الرأي العام والمؤسسات المجتمعية المؤثرة في الشعب المضيف ومتابعتها، وبالتالي التنبؤ بالمتغيرات المحتملة في الأوضاع الإقليمية والعالمية الأمر الذي يسمح بصناعة الرأي العام في دولة المقر ودفعه نحو الاتجاهات الإيجابية لمصلحة الأمن القومي المصري وفي الوقت نفسه بالتغلغل"الناعم"لفرض القوة"الناعمة"لمصر في دولة المقر!! وتبرز الأهمية القصوى للديبلوماسية الشعبية المصرية مقارنة بغيرها من الأدوات الديبلوماسية في الدائرة القومية العربية أولاً ثم في دائرة التخوم الإقليمية المحيطة بها ثانياً باعتبارهما يشكلان بالنسبة الى الأمن القومي والسياسة الخارجية دوائر مميزة وحميمة يغلب عليها التقارب والتناغم والتضامن الطبيعي بين الشعوب والمجتمعات بصرف النظر عن مواقف الدول والحكومات واتجاهاتها. وبالنظر إلى التنظيم الرسمي للدولة المصرية فإن الديبلوماسية الشعبية تقوم بها المكاتب الإعلامية المصرية في الخارج والتابعة للهيئة العامة للاستعلامات في وزارة الإعلام. الديبلوماسية الشعبية المصرية في دائرتي العرب والتخوم... إن الهوية العربية بالنسبة الى مصر ليست اختياراً إرادياً حراً، بل هي واقع قدري حتمي يفرضه موقع مصر في قلب الدائرة العربية وحيث يتسم الوطن العربي - شئنا أم أبينا - بوحدة الجغرافيا بما خلقته من مصالح موحدة وبوحدة التاريخ بما خلقته من مشاعر موحدة وبوحدة الثقافة بما خلقته من أفكار موحدة، ما يترتب عليه تطابق قومي نموذجي في خريطة الوطن العربي التي تتوسطها مصر، الأمر الذي يفرض حالاً حميمة من العلاقات النموذجية المباشرة بين الشعوب والمجتمعات العربية يغلب عليها التناغم والتضامن بصرف النظر عن الممارسات القطرية الصغيرة والعابرة لبعض الدول والحكومات العربية تجاه الحال الحميمة في شكل عام أو تجاه بعضها بعضاً أو تجاه مصر على وجه الخصوص، وبصرف النظر عن الهوس والانحراف الفكري اللذين يتخذان من الهوية العربية مبرراً غير علمي وغير واقعي للمزايدات السياسية والشوفينية العرقية تجاه الهويات القومية الأخرى سواء كانت موجودة داخل الوطن العربي أم على تخومه أم بعيدة منه. أما دائرة التخوم الإقليمية فتضم مجموعة دول الجوار المحيطة جغرافياً بالوطن العربي من كل الاتجاهات، وهي تتسم بأن لكل منها الكثير من المقومات المشتركة مع مختلف الأقطار العربية لا سيما الملاصقة لها حدودياً الأمر الذي أوجد حالة مميزة من العلاقات المباشرة يغلب عليها التقارب والتناغم بين شعوب التخوم ومجتمعاتها وجيرانها العرب الذين يتوسطهم المصريون جغرافياً ويتفاعلون معهم ومن خلالهم يتفاعل المصريون شعبياً ومجتمعياً مع دائرة التخوم الإقليمية بمختلف تنويعاتها، ولا يغير من هذا الواقع تنوع بعض المقومات والاهتمامات لدى مختلف شعوب دائرة التخوم الأفريقية والآسيوية والبحرأوسطية. وإذا كانت الدائرة القومية العربية تضم إضافة إلى مصر 21 دولة فإن دائرة التخوم الإقليمية تضم عدداً مساوياً من الدول حيث نجد التخوم الأفريقية تشمل أثيوبيا وأريتريا ودول حوض النيل أوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وزائير ودول الصحراء الكبرى تشاد والنيجر ومالي والسنغال وتقتصر التخوم الآسيوية على تركيا وإيران أما تخوم البحر الأبيض المتوسط فتضم أسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص وألبانيا إلى جانب دويلات الاتحاد اليوغوسلافي السابق. وبالنظر إلى الواقع الراهن للمكاتب الإعلامية المصرية في الخارج والمنوط بها ممارسة الديبلوماسية الشعبية نجد أن عددها حالياً هو 32 مكتباً فقط موزعة على أساس 11 مكتباً في الدائرة العربية و5 مكاتب في دائرة التخوم الإقليمية و6 مكاتب في أوروبا و4 مكاتب في أميركا الشمالية و3 مكاتب في آسيا ومكتبين اثنين في أفريقيا إضافة إلى مكتب واحد في إسرائيل. وعلى رغم أن المكاتب الإعلامية الخارجية تعمل تابعة للبعثات الديبلوماسية المصرية في الخارج، إلا أنها، وبهذا العدد القليل، توجد فقط في ما يقل عن ربع السفارات المصرية المنتشرة في كل أنحاء العالم، كما أن التوزيع الجغرافي المشار إليه لمكاتب الإعلام الخارجي لا يتفق مع خرائط الأهمية النسبية للديبلوماسية الشعبية في الدوائر المميزة والحميمة للسياسة الخارجية المصرية وبالتالي لا يتفق مع مقتضيات الأمن القومي المصري. ذلك أنها موجودة فقط في نصف أقطار الدائرة القومية العربية وفي أقل من ربع أقطار دائرة التخوم الإقليمية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدد مكاتب الإعلام الخارجي المنوط بها ممارسة الديبلوماسية الشعبية انخفض خلال الربع قرن المنصرم إلى النصف مع انخفاض عدد الديبلوماسيين العاملين في ما تبقى من مكاتب خلال الفترة نفسها إلى الربع في الوقت الذي أزداد فيه عدد السفارات المصرية في الخارج مع زيادة أعداد العاملين في وحداتها الديبلوماسية الأخرى, وهو ما يمكن إرجاعه لأسباب عدة منها ما هو سياسي مثل تزايد الاهتمام بالحاجات الرسمية للدولة المصرية على حساب حاجات المجتمع المصري في الداخل وبالتالي في الخارج في ما يخالف مفهوم الأمن القومي كما سبق تعريفه، ومثل التجاوب السلبي لدرجة الخضوع للمتغيرات في الأوضاع الإقليمية والعالمية المحيطة وعلى رأسها الأحادية القطبية الأميركية بما صاحبها من ضغوط لتفكيك الدوائر والأبنية العريقة وطنياً وقومياً وإقليمياً واستبدال دوائر أخرى بها مصطنعة لتتجاوب رسمياً وشعبياً مع المصالح الأميركية والإسرائيلية كالدائرة الوهمية التي يسمونها"مشروع الشرق الأوسط الكبير"، على رغم أن الخضوع للمتغيرات يخالف بدوره مفهوم الأمن القومي كما سبق تعريفه. علماً أن ليس هناك أسهل من التصحيح الفوري لهذا الوضع الضار والشاذ بإعلان الدولة المصرية استمرار تقديرها للدور المهم الذي تؤديه الديبلوماسية الشعبية لمصلحة الأمن القومي المصري من خلال إصدار قرار مرحلي عاجل بإعادة افتتاح أربعة فقط من مكاتب الإعلام الخارجي التي سبق إغلاقها في كل من سورية وكينيا والسنغال وإيران مع افتتاح مكتبين جديدين فقط في كل من اليمن واليونان، حيث لم تعد خافية تلك الانعكاسات السلبية الخطيرة على الأمن القومي المصري جراء استمرار غياب الديبلوماسية الشعبية عن هذه الأقطار الستة المهمة في الدائرة العربية ودائرة التخوم. * كاتب مصري.