اختتم مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر المتوسط أعماله بتوزيع الجوائز على مستحقيها. وربما المفاجأة الكبرى من طريقة منح الجوائز، فقد حصد البلد المضيف «رؤوس» هذه الجوائز في المسابقات الثلاث. ففي مسابقة الفيلم الوثائقي التي ترأسها الناقد المغربي مصطفى المسناوي فاز فيلم «السلاحف لا تموت بسبب الشيخوخة» للمخرجين المغربيين هند بنشقرون وسامي مرمر بجائزة مدينة تطوان الكبرى. فيما ذهبت جائزة العمل الأول إلى المخرج المصري الشاب فوزي صالح عن فيلم «جلد حي»، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى المخرج الفلسطيني محمد البكري عن فيلم «زهرة». أما في مسابقة الأفلام القصيرة فقد ذهبت الجائزة الكبرى إلى المخرجة المغربية المقيمة في كندا حليمة الورديغي عن فيلمها «مختار». ولم يخل الأمر من مفاجأة كبرى حين توج فيلم «الجامع» للمخرج المغربي داوود اولاد السيد بالجائزة الكبرى لمدينة تطوان وبجائزة أفضل دور رجالي لممثله الرئيس عبدالحميد توهراش. فيما ذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى الفيلم الايطالي «الفصول الأربعة» للمخرج ميغيل أنجلو فرامارتينو، وهو فيلم مستغرق في لغة سينمائية صرفة يستحق الوقوف أمامه والتأمل فيه لجهة الميتافيزيقيا البصرية التي أحكم المخرج وثاقها في فيلمه البديع وجعل منها اللغة التي يسرد من خلالها حكاية الناس ومكونات الطبيعة الملهمة، ومستغنياً عن الحوارات في شكل كامل وهو يقودنا إلى حكاية مصورة تفتح على الأخرى من دون الاستقواء على بعضها البعض بذرائع الكلام.كذلك حصل فيلم «الناموسية» للإسباني اوغست فيلا على جائزة محمد الركاب وجائزة أفضل ممثلة فيه لماريا غارسيا، والفيلم الجزائري «الساحة» للمخرج دحمان اوزيد حصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج الروسي المقيم في فرنسا ايغور ماناييف. يعود المخرج المغربي داوود أولاد السيد في فليمه «الجامع» إلى قرية زاغورا التي كان قد صور فيها فيلمه السابق «بانتظار بازوليني» بحثاً عن «موحا» الذي لعب دور كومبارس في الفيلم القديم. سنكتشف تباعاً أن موحا له مشكلة عويصة مع أهل قريته تتلخص ببناء ديكورات على أرضه المستأجرة من قبل طاقم الفيلم، وهي الديكورات التي هدمت بعد الانتهاء منه، فيما لم يتخذ القرار بهدم «ديكور» الجامع، لا بل قام صديق كومبارس له بتعيين نفسه إماماً لهذا الجامع، الأمر الذي يدفع موحا للاستنجاد بفقيه أحد الجوامع الذي ينهيه عن المطالبة بحقه، على رغم شرحه المطول والمقنع بأن بقاء الديكور على أرضه يهدد لقمة عيشه حيث لا معين له سوى هذه الأرض ويحرم أطفاله من العيش الكريم في بقعة جغرافية قاسية تعاني أصلاً من قسوة وشظف العيش. موحا الموظف السابق في وزارة الثقافة المغربية لا يعرف المهادنة ولا يتسلل اليأس إلى قلبه، فيتوجه إلى مسؤول محلي ينهيه بدوره عن القيام بذلك ومطالباً اياه بإحضار رسالة من المركز السينمائي المغربي يمكن أن ترد له حقه في الأرض اذا ما قرر المركز التخلص من الديكور المشيد على أرضه. موحا المغلوب على أمره لا يدرك امكانية الاتصال بأي مسؤول آخر سواه، فيقرر اللجوء إلى سائق جرافة مقتنع مثله بأن ديكور الجامع بني من خلال الاستيلاء على أرض غير شرعية، وأن سماحة الدين الاسلامي لا تقبل هذا الظلم، وأن قطع ديكور سينمائي يمكن تفكيكها وتركيبها من دون الحاجة إلى فتاوى من أي نوع، وبخاصة أن اتجاه القبلة فيه غير صحيح كما يبين السائق للمسؤول المحلي. تفشل محاولة موحا في استرجاع أرضه على رغم كل محاولاته شرح النفاق الديني الذي يمارسه (الكومبارس) الذي كان صديقاً له. بالطبع لا يمكن قراءة فيلم «الجامع» من دون الرجوع إلى مكونات الفيلم السابق «بانتظار بازوليني». في هذا الفيلم يقوم التهامي ببيع وتصليح الأطباق اللاقطة لسكان قرية زاغورا والقرى المجاورة مؤكداً لهم في كل مرة أن المخرج الايطالي بيير باولو – بازوليني سيجيء لتصوير فيلم جديد، وهو الذي سبق له وعمل معه ككومبارس في فيلمه «أوديب ملكاً» حين صوره في ستينيات القرن الماضي أجزاء منه حيث يقيم هؤلاء الناس حالياً. ما يقوم به التهامي هو صناعة الأحلام لهؤلاء الفقراء من خلال انتظار صناعة فيلم، في مواجهة الحياة القاسية التي يعيشونها وفي مواجهة بطالة اجبارية مهلكة، فكل فيلم يصور هناك يعني عملاً لكثر مدة لا تقل عن ست شهور أو أكثر أحياناً. يدرك أولاد السيد في مواجهة هذا (التبئير) الدرامي، أنه عليه أن يجمع ما بين التهامي بائع الأحلام والأوهام الجميلة، للاستمرار بطاقة العيش على رغم فظاظة الحياة نفسها، وبين صاحب «أوديب ملكاً» في صورة من عهد تتخلخل فيه الحكايات أيضاً، فهو يعرف بميتته المأسوية منذ زمن، ولكنه ينقل إليهم أخبار وصوله لينعش فيهم القدرة على الأمل وهو لا يكتفي بذلك، بل يذهب إلى جمع أهل ورزازات، ليحاضر فيهم عن الممثل، وأهميته في الفيلم. هذا الخلط بين ما هو متخيل وواقعي يكاد ينسحب أيضاً على فيلم «الجامع»، فإذا كانت السينما في «بانتظار بازوليني» لا تجيء في موعدها المحدد، فإنها في فيلم «الجامع» تتشكل من السينما نفسها بمشاركة من أولاد السيد نفسه، الذي يقرر هنا البحث عن (موحا)، ليمسك معه طرف الحكاية الجديدة المتمثلة ببناء ديكور يفترض التخلص منه مجرد الانتهاء من تصوير الفيلم، وبدلاً من ذلك يصبح ذريعة لرواية فيلم آخر، وإن بدا أن مشاركة أولاد السيد في المشاهد الأولى لم تكن ضرورة درامية مقنعة بالكامل. موحا يمثل الحالة الخاصة لهذا الفيلم القائم على رواية حقيقية دارت فصولها في استوديوات ورزازات وزاغورا. هنا يطيب للمخرج أولاد السيد صناعة فيلم من داخل الفيلم نفسه في لعبة سينمائية ذكية ليست من «اختراعه». ولكن ها هنا تأخذ منحى مختلفاً بحاجة لاعادة قراءة من عدة زوايا في آن، ف (موحا) الذي يحظى بدور بطولة مطلقة في هذا الفيلم، لن يودع دور الكومبارس نهائياً، وهو يعرف ذلك، لأن الدور المنوط به يجيء من الواقع، فإن غادره في السينما، فلن يغادره في الواقع الذي يجيء منه، وهنا يكمن سحر الدور الذي يلعبه، فنحن سنقف معه في مواجهة لعبة الديكور السينمائية. الديكور النفسي الذي يتخذ منه داوود ذريعة لصناعة فيلمه الأول، سيصبح هنا عقبة كبرى في حياة الكومبارس السابق، بل سيصبح هو أساس اللعبة الجديدة. بهذا المعنى هل سيصبح (الجامع) لعبة ديكورات سينمائية لعبها سينمائيون آخرون من قبل، ربما بسبب أوضاع انتاجية، وليست ابداعية في المقام الأول، ولكنها أتت بنتائج فنية متقدمة، وهي تتخذ منحى بالغ الأهمية، يكون سببه هذه المرة الكشف عن امكانية استغلال الدين، والنفاق الاجتماعي الناشئ عن سوء استغلاله، وتصريف شؤونه بين الناس عن طريق التزوير والخداع.