في العام الماضي حين وصلت قضية الهجوم على الكاتب الألماني غونتر غراس، في الصحف الغربية الى ذروتها بسبب ما قيل عن إخفائه طوال عقود طويلة حكاية انضمامه وهو فتي الى شبيبة الحزب النازي، كان الكاتب الأميركي جون ارفنغ من أبرز الذين علقوا على الموضوع وأهمهم حيث نشر في مجلة"نيويوركر"مقالاً عنوانه"ان تكون مرة جندياً..."تعرض فيه، وإن في شكل ملتبس الى مسألة غونتر غراس. والحال أن أهمية موقف ارفنغ تأتي من كونه واحداً من الكتّاب الانغلوساكسونيين الذين ساندوا كل أدب غراس في الغرب، بل انه أعطى إحدى شخصياته الروائية، ذات مرة، اسماً يبدأ بأول حرفين من اسم أوسكار ماتزيرات، بطل رواية غراس الأشهر"الطبل الصفيح". وهو حين سئل يومها عن دلالة هذه المقاربة، قال: مجرد تحية الى زميل كبير. مهما يكن، فإن حكاية غراس وانتماءه الى الشبيبة النازية لم يكونا سوى زوبعة في فنجان، كالعادة، إذ سرعان ما صمت المهاجمون، وبقي أدب الروائي الألماني الكبير، وصاحب جائزة نوبل للآداب، حاضراً بقوة في الحياة الثقافية العالمية. ينطبق هذا على مجمل أعمال غراس، ولكن بصورة خاصة على روايته"الطبل الصفيح"التي لا تعتبر فقط أبرز أعمال غراس، بل كذلك، أبرز رواية صدرت في اللغة الألمانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ثم العمل الأفضل الذي غاص في صلب الضمير الألماني الذي ما برح يسائل نفسه عن تلك المجزرة الإنسانية التي اقترفها. ومن هنا لأن هذا التساؤل، ضمن منطق ما، لا يمكنه إلا أن ينتمي الى جنون ما، ها نحن نلتقي أوسكار ماتزيرات، أول ما نلتقيه، في مصح الأمراض العقلية. ثم انه هو الذي يقدم الينا نفسه، لأنه هو الذي يروي لنا الحكاية، حكايته الممتدة بين عامي 1920، و1954. فالرواية، في نهاية الأمر، رواية عنه: سيرة حياته. أو بالأحرى سيرة حياة ما، سيفترض هو وسنفترض نحن معه أنها حياته، طالما انها تبدأ مع ولادته، لتنتهي به جالساً يكتب مذكراته وبالتحديد في مدينة دانتزغ، ذات الكيان الملتبس. ذلك أن دانتزغ"الألمانية"هي في الوقت نفسه غدانسك البولندية. وأوسكار نفسه قد يكون المانياً وقد يكون بولندياً، بحسب وجهة النظر. أو في شكل أكثر تحديداً، بحسب الحقبة التاريخية. غير أن الأهم من هذا كله هو ما يفضي به الينا أوسكار من أنه، ومنذ ولادته، يطلق صرخة قادرة على تحطيم أقوى أنواع الزجاج: الكريستال ما يحيلنا بالطبع، وفي شكل مباشر، على ليلة الكريستال الشهيرة التي ستشهد بعد ولادة أوسكار بسنوات، بدء صعود النازيين كقوة عنف تدميرية في المانيا، ثم في العالم -. غير أن لأوسكار، بين سمات أخرى، سمة أساسية في شخصيته: انه حين بلغ الثالثة من عمره، والتسعين سنتيمتراً من قامته، قرر ألا ينمو بعد ذلك أبداً. سيظل الى الأبد قزماً... لكنه سيصطحب معه لبقية حياته، ذلك الطبل الصفيح الذي يحمله ويعبّر به، جاعلاً من إيقاعه، إيقاعاً للعصر وللزمن وللأحداث التي تمر به، ويمر بها. ونعرف أن الأحداث التي عصفت بألمانيا بين بداية عشرينات القرن العشرين ونهاية أربعيناته، كانت أحداثاً صاخبة... عرف أوسكار ماتزيرات على أية حال، كيف يعيشها. بل حتى، كيف يكون فيها فاعلاً بدلاً من أن يكون مفعولاً به. إذاً، حاملاً طبله الذي تلقاه هدية يوم عيد ميلاده الثالث، ومكتفياً بالطول الذي بلغه رافضاً المزيد، احتجاجاً على فساد عالم الكبار، يطل أوسكار على الحرب العالمية الثانية ومقدماتها، وتحديداً في تلك المدينة البروسية ? البولندية، التي انما كان تمزقها، خلال الحرب، صورة عن تمزق الأمة الألمانية ككل. في حياته تلك، يعيش أوسكار الحرب والحياة والمجازر والمحارق الهتلرية، وحكايات الحب الغريبة، لكن الأمرّ من هذا كله ? إذا كان ثمة ما هو أمرّ من هذا ? أن أوسكار يعيش أيضاً عالم بعد الحرب الهش. العالم الغريب الذي يبدو فيه لأوسكار أن كل شيء قد فقد هويته ونقاءه. وأوسكار، لموقعه الوسط يبدو قادراً على رصد ذلك كله. فهو منذ البداية، مثلاً، يعتبر ان له والدين: ألفريد زوج أمه، العضو في الحزب النازي، ويان عشيق هذه الأم، وهو مواطن بولندي من دانتزغ يُعدم على أيدي النازيين بتهمة الهجوم على الجيش النازي حين غزا هذا الأخير بولندا ? وفي شكل أصح بتهمة الدفاع عن مركز البريد البولندي في دانتزغ، وهو دفاع اعتبره النازيون هجوماً عليهم -. بعد ذلك إذ تموت أم أوسكار، يتزوج ألفريد من ماريا، المرأة التي كانت قبل ذلك عشيقة سرية أولى لأوسكار. ومن هنا نعرف نحن القراء أن ماريا إذ تضع لألفريد مولوداً ذكراً"كارل"هو باكورة زواجهما، تخفي عنه ان الطفل هو في الحقيقة ابن أوسكار. أوسكار طبعاً سيسر بالولد، لكنه سيستاء لاحقاً استياء شديداً حين يبدو له كارل غير راغب في التوقف عن النمو عند سن الثالثة، كما حدث لأوسكار نفسه. لكن هذا كله لا يوقف دورة الحياة، ولا تفاعل أوسكار مع ما يدور من حوله. ذلك أننا نراه خلال الحرب ينضم الى فرقة من الأقزام تقوم بالترفيه عن جنود الاحتلال الألماني... وهي مهمة تقود الفرقة الى دانكرك. وهناك تقتل روزفيتا، حبيبة أوسكار القزمة، على أيدي الحلفاء النازلين في النورماندي. فيعود أوسكار الى دانتزغ، حيث يصبح زعيماً لعصابة من المجرمين. ويتزامن هذا مع دخول القوات السوفياتية اليها. وهذه القوات تطلق النار عليه فيما كان يرمي شارته الحزبية، كيلا يدرك الروس انه كان عضواً في الحزب النازي. بيد أن اطلاق النار لا يقتله، بل يدفعه الى التعجيل بالرحيل مع ماريا، زوجة زوج أمه، الى داسلدورف، حيث يعمل موديلاً لطلاب الرسم، ثم صانعاً لمحفورات حجارة القبور. وهناك يقع في غرام الأخت دوروثيا الطاهرة كالملائكة، لكنه يخفق في اغوائها. ولعل هذا الاخفاق هو ما يدفع بأوسكار الى التعويض على نفسه بالفن - أي بالنسبة اليه: بالعزف على الطبل -، حيث يصبح عازف طبل في فرقة جاز ويدر عليه هذا النشاط الفني ثروة طائلة موفراً له في الوقت نفسه شهرة ما بعدها شهرة. ثم ذات يوم وهو يسير في حقل من الحقول يعثر صدفة على إصبع مقطوعة. انها إصبع دوروثيا. فماذا يكون رد فعله؟ يقنع نفسه بأنه هو القاتل، إذ يتبين أن دوروثيا قد قتلت، ما يجعل السلطات تعتقله تضعه في مأوى المجانين، حيث يجلس هادئاً طوال سنتين ليكتب لنا حكايته. طبعاً يمكننا أن ندرك هنا ونحن نطوي آخر صفحات هذا الكتاب، أن موضوعه يتناول الكثير من الرؤى والقضايا. غير ان"التيمة"الأساسية تبقى البراءة والفن كصنو لهذه البراءة. الفن الذي يمكنه، وحده، أن يجابه عارياً، كل شر الحروب والكراهية والتمزق داخل الذات وبين البشر. فأوسكار يتفادى كل شيء، بما في ذلك الموت والقتل، بموهبته الفنية. بل انه يستخدم طبله من ناحية، وصراخه العنيف من ناحية ثانية والاثنين لا يبعدان من بعضهما بعضاً كثيراً على أي حال لمجابهة النازيين، هو الذي لا يكف في كل لحظة وحين عن إزعاجهم بطبله. ثم لاحقاً حين يتزعم عصابة المجرمين نراه يستخدم صوته لتحطيم واجهات المحلات التي يريد وعصابته سرقتها. إذاً، في الحالين، خيراً أو شراً، تبدو مواهب أوسكار الفنية، سلاح يستخدمه. غير أن هذا ليس سوى سمة واحدة من سمات هذه الشخصية، في رواية، صحيح أن كاتبها غاص عبرها في تاريخ نصف قرن تقريباً, لكنه صور في شكل خاص، تمزق أوروبا وتمزق المانيا والإنسان المعاصر عموماً، في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية. ومن هنا لم ينظر الى هذه الرواية التي نشرها غراس للمرة الأولى عام 1959، على انها رواية تاريخية، بل اعتبرت عملاً معاصراً، إذ من خلال أسلوبه"الواقعي السحري"تمكن غراس من أن يرسم صورة شديدة الراهنية، تبدو رموزها من الشفافية لتقول كل شيء وترسم كل الهواجس. وغونتر غراس نفسه هو من مواليد مدينة دانتزغ، نصف ألماني نصف بولندي، حيث ان أمه تنتمي الى أقلية بولندية. ولد غراس عام 1927، ودرس الرسم، والنحت أولاً ولا يزال يمارسهما حتى اليوم -، ثم تحول الى الأدب، وخلال اقامته في باريس آخر الخمسينات، كتب"الطبل الصفيح"التي كانت روايته الأولى لتليها بعد ذلك روايات وكتب أخرى من أبرزها:"القط والفأر"وپ"سنوات الكلب"وپ"الفأرة"وپ"يوميات الحلزون"... كما كتب للمسرح ونصوصاً سياسية هو الذي خاض المعترك السياسي مستشاراً لويلي براندت مؤيداً سياسته الانفتاحية، واصلاً بعد توحيد المانيا إثر سقوط النظام الشيوعي، الى ادانة ذلك التوحيد باعتباره غير مفيد للجانبين. وهذا ما جرّ عليه، لا سيما بعد أن نال جائزة نوبل للآداب، هجومات وصلت الى ذروتها حين اعترف في كتاب مذكراته الذي أصدره أخيراً، انه انتمى وهو بعد في أول شبابه الى الشبيبة الهتلرية... [email protected]