قبل غزو الكويت ببضعة أشهر، استقبل الرئيس العراقي صدام حسين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي قصده للشكوى من ظلم الحكام العرب الذين حاربوه وطاردوه وحجبوا عنه المساعدات المالية. وأصغى اليه صدام حسين باهتمام، وانتظره حتى أفرغ ما في صدره من احتجاج، ثم أجابه بنبرة غاضبة قائلاً: أنت مسؤول يا أبو عمار، عن المصير المؤلم الذي وصلت اليه القضية الفلسطينية. لماذا؟ لأنك سمحت للحكام العرب باستعمال هذه القضية"صابونة"لغسل تخاذلهم. والنتيجة ان قضية الأمة العربية أصبحت"بروة"صغيرة لكثرة ما استخدمتها الأيدي. وعندما انتهى صدام من شرح سلسلة اتهاماته، راح يطمئن عرفات الى المصير المشرف الذي ينتظر الثورة الفلسطينية. وطلب منه الصبر والانتظار بعض الوقت، لأنه سيمنحه مكاسب كبرى تغنيه عن"التسول"من أجل دعم القضية! لم يفهم أبو عمار خلال ذلك اللقاء طبيعة التوقعات التي أوحى بها صدام حسين، ولكنه بعد غزو الكويت، فسر تلك الوعود بأنها تعني اقتطاع ما نسبته ثلث انتاج نفط الكويت، ومنحه للمقاومة الفلسطينية لإعانتها على الاستغناء عن المساعدات العربية. ولما حاول عرفات طرح وساطته قبل التدويل، رفضت الكويت لاعتقادها بأن موقفه المؤيد للغزو، أعطى اسرائيل المبرر لاحتلال فلسطين. عقب اشتعال جبهة قطاع غزة وارتكاب اسرائيل مجازر ضد المواطنين الأبرياء، رداً على صواريخ"كتائب القسام"، عاد الى التداول الوصف الذي أطلقه صدام حسين على القضية من أنها تحولت الى"بروة"في ايدي مستعمليها. ونشرت الصحف تحليلات تتعلق بالدوافع السياسية الخفية التي فجرت الوضع الأمني في هذا الوقت بالذات، علماً بأن"حماس"حاولت دائماً منع منظمة"الجهاد الاسلامي"من إطلاق صواريخها على مستوطنة"سديروت". التحليل الأول نُشر في مجلة"فانيتي فاير"غير السياسية، وفيه رواية كاملة حول كيفية تآمر واشنطن مع رئيس جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني السابق محمد دحلان. وملخص التقرير يتضمن اتهامات لدحلان بافتعال مواجهات عسكرية مع"حماس"بهدف إطاحتها، عقب فوزها في الانتخابات التشريعية. وعلق الناطق باسم منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة ماهر مقداد على هذا التقرير بالقول:"انه مختلق من قبل جهات تستخدمها حركة"حماس"لتبرير انقلابها على السلطة وإعفائها من مسؤولية الانقسام وضرب المشروع الوطني". التحليل الآخر الذي تناوبت على نشره صحف خليجية ومصرية ولبنانية، يشير بأصابع الاتهام الى خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة"حماس". ويدعي هذا التحليل ان مشعل أمر بإطلاق صواريخ"القسام"بهدف افتعال أزمة تستفيد منها سورية في القمة العربية المقبلة، ذلك ان تأجيج المشكلة الفلسطينية يحجب مشكلة الرئاسة اللبنانية ويؤجل تداولها الى مرحلة أخرى، الأمر الذي يساعد دمشق على تجاوز هذا المأزق المستعصي، تماماً مثلما وظفت سورية عبر خالد مشعل، أزمة المعابر الفلسطينية كي تمنع مصر من التدخل في الشأن اللبناني. وقد أعرب المسؤولون المصريون في حينه، عن شكوكهم حول توقيت انفجار القطاع إثر الزيارة التي قام بها وزير الخارجية أحمد أبو الغيط لبيروت، ونداء الرئيس مبارك:"ارفعوا أيديكم عن لبنان"، وكانت النتيجة حسب رأي الاجهزة الأمنية المصرية، ان حصلت عملية اقتحام بوابات جدار رفح، أثناء انعقاد مؤتمر الفصائل الفلسطينية في دمشق، وامتلاء شوارع القاهرة بالمتظاهرين القادمين من المحافظات، وفسر بعض المعلقين المصريين هذا التوقيت بأنه محاولة سورية لتحميل مصر أوزار السياج الحدودي. وهكذا سجلت"حماس"انتصاراً جديداً في معركتها للحصول على تأييد الشارع الفلسطيني والعربي. ومثل هذا التفسير أعطاه الرئيس محمود عباس ل"الحياة"عندما ربط أزمة المعابر بموقف"حماس"، قال إن قيادة"حماس"تريد اظهار مصر وكأنها من يقف في وجه تنفس الشعب الفلسطيني. والحقيقة أن إسرائيل هي من يقفل المعابر كعقاب على اطلاق الصواريخ. التحليل الثالث الذي ظهر في هذا السياق، يتحدث عن اتفاق"حماس"و"الجهاد الإسلامي"على تقويض انجازات مؤتمر السلام، واظهار السلطة الفلسطينية بمظهر القوة العاجزة عن فرض أي حل. وهذا ما شجع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس على القدوم إلى المنطقة بغرض ترميم الوضع الأمني الذي أربك محادثات السلام. وقد اعترف أبو مازن بهذا الارباك عندما رفض التبرير الذي قدمه ايهود أولمرت، وقال إن قتل 120 مواطناً بينهم 20 طفلاً هو اعتداء يصعب تبريره تحت أي ذريعة. يستدل من نتائج اللقاءات التي أجرتها الوزيرة رايس في مصر وإسرائيل، أن المواقف كانت متباينة إلى حد قد يهدد استئناف المفاوضات. ففي حديثها إلى المراسلين شددت رايس على ضرورة تسليح السلطة الفلسطينية الشرعية بهدف تأسيس قوة أمنية مهنية قادرة على أن تكون جزءاً من الحل. وتجاهلت الدعوة المصرية لوقف اطلاق النار بين"حماس"وإسرائيل، معتبرة أنه من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها في مواجهة الصواريخ التي تؤمنها إيران ل"حماس". وكانت بهذا الكلام تتجاوز حديث محمود عباس حول صواريخ التنك المصنعة محلياً، وتؤكد أن"حماس"أصبحت مثل"حزب الله"تستخدم صواريخ مصنعة في إيران. وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط طالب بضرورة الإقرار بأن"حماس"جزء من المعادلة الفلسطينية، لذلك ينبغي التعامل معها كفريق يتوجب اقناعه بالانضمام إلى عملية السلام. ومثل هذا الموقف الرسمي يبيّن عمق الهوة التي تفصل بين أميركا وإسرائيل من جهة، وبين مصر والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى. ففي رأي أولمرت ورايس هناك شعب في الضفة الغربية يختلف في توجهاته ومعتقداته السياسية عن الشعب في قطاع غزة. وبموجب هذا المعيار يصنع أولمرت السلام مع سكان الضفة، في حين يرسل طائراته الحربية لقصف سكان غزة. وحول هذه النقطة بالذات يكمن الفارق بين أفضل الخيارات المطروحة من قبل الفريقين: فريق يسعى إلى إعادة سلطة"فتح"إلى غزة على ظهر الدبابات الإسرائيلية على أمل حماية سكان مستوطنة"سديروت"... وفريق يسعى إلى ضم"حماس"إلى محادثات السلام أثناء المرحلة الثانية من"خريطة الطريق". والسبب أن الرئيس عباس لا يريد أن تنتهي محاولته بمثل ما انتهت إليه محاولة سعد حداد وانطوان لحد في جنوبلبنان، أي دولة تابعة لإسرائيل. عندئذ ستضطر المنظمات الأخرى في قطاع غزة لأن تدور في فلك سورية وإيران و"حزب الله"، مع الضغط المتواصل على المنافذ المؤدية إلى مصر. وقد عبّر المسؤولون في القاهرة مراراً عن خشيتهم من سيطرة"حماس"و"الجهاد الإسلامي"على قطاع غزة بطريقة تحيي التحالف مع جماعة"الاخوان المسلمين"وتعرض الأمن الداخلي المصري لخطر الاضطرابات. قال ايهود أولمرت إن لإسرائيل مصلحة وجودية في تعزيز دور الشريك الفلسطيني، وانه على استعداد لتوقيع اتفاق شامل مع محمود عباس يؤدي إلى وقف اطلاق النار وإلى فتح كل المعابر. ولكنه سرعان ما تراجع عن هذا الموقف لأن الانسحاب من غزة عرّض الأمن الإسرائيلي للانتهاك المتواصل. وعليه يرى أنه من الصعب الانسحاب من الضفة الغربية قبل تسليح جنود السلطة بحيث يستطيعون مقاومة المتعاطفين مع"حماس"و"الجهاد الإسلامي". وهذا يعني أنه من المتعذر توقيع اتفاق سلام مع"فتح"إذا كانت الدولة الفلسطينية المقرر انشاؤها ستبقى خاضعة لمنطق القوة المسلحة لا لمنطق الحوار الوطني، خصوصاً أن الحركة التي ترفض الاعتراف بإسرائيل هي المسيطرة على الشارع الفلسطيني. في إسرائيل اقترحت كوندوليزا رايس أهمية الحصول على موقف موحد لوقف اطلاق النار. واعترض أولمرت ووزير الدفاع ايهود باراك على هذا الاقتراح لأن"حماس"ستستغله للحصول على استراحة تمكنها من تحصين مواقعها قبل استئناف الانتفاضة. ورأى محمود عباس أن تقدم المفاوضات حول القضايا الجوهرية يمكن أن يحسن الأجواء السياسية، ويعطي الوزير باراك فرصة أخرى لتجديد فكرة إقامة قوة متعددة الجنسية للرقابة على الوضع الأمني في غزة. أي الفكرة التي طرحها على المسؤولين الأتراك خلال زيارته الأخيرة لأنقرة، وهي تقضي بوضع قوات إسلامية محايدة على محور فيلادلفيا بينها قوات من تركيا والأردن وماليزيا وقطر. ويبدو أن أنقرة تحفظت على هذا الاقتراح لأنها لا تريد اغضاب سورية وإيران، الدولتين اللتين تحثان"الجهاد الإسلامي"و"حماس"على مواصلة التحدي بهدف نسف مشروع السلاح الفلسطيني - الاسرائيلي. منذ الانتفاضة الأولى طورت اسرائيل عقيدتها الردعية برد عسكري غير متوازن. وكانت تعتقد بأن هذا الأسلوب سيردع"حماس"و"الجهاد الاسلامي"من مواصلة التحدي بواسطة صواريخ القسام. ولكن حرب تموز 2006 تمخضت عن واقع جديد على أرض المعركة عندما أثبتت للفلسطينيين ان الرشقات الصاروخية ستحقق توازن الرعب مع الدولة المالكة لأكثر من مئتي رأس نووي. وكانت قاعدة التوازن هذه قد طبقت بنجاح من قبل"حزب الله"الذي أرغم اسرائيل على الانسحاب من جنوبلبنان. أثناء الانتفاضة الثانية اعترفت اسرائيل بعجزها عن قمع"الارهاب". ولكن رئيس الوزراء ارييل شارون بلور عقيدة بديلة تقوم على أساس التصفية المركزة لرواد"الإرهاب"ورموزه مثل الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس وعبدالعزيز الرنتيسي وصلاح شحادة ويحيى عياش. ويبدو ان قاتل كمال عدوان و"أبو يوسف النجار"وكمال ناصر، اي وزير الدفاع ايهود باراك، قرر اعتماد هذه العقيدة عندما أمر الموساد بتصفية عماد مغنية. خلال إحياء ذكرى الاسبوع على اغتيال مغنية، أقسم أمين عام"حزب الله"السيد حسن نصرالله على الثأر لدم الحاج عماد، وتوعد اسرائيل بتدمير جيشها وهيبته إذا هي فكرت بعدوان جديد. وتبعت هذا التهديد حركة استنفار عالمية، وتبارت مراكز المعلومات في رصد المواقع التي يمكن ان تشهد عملية الانتقام. وعندما وقفت البارجة"كول"أمام الشاطئ اللبناني، كان ذلك بقصد حماية قوات"اليونيفل"التي تردد أنها ستتعرض لهجوم واسع. ومع انفجار الوضع الأمني في"غزة"تردد أن"حماس"هي التي ثأرت لعماد مغنية باعتباره حصر أكثر عملياته بالدفاع عن القضية الفلسطينية. وبما أن هناك شبه وحدة سياسية وعسكرية متكاملة تجمع"حزب الله"و"حماس"وايران وسورية، فإن الانفجار الأخير في غزة قد يحقق وعد السيد نصرالله. علماً بأن حرب تموز 2006 شكلت الدرع الواقي لحماية ايران من ضربة كانت اسرائيل تتهيأ لتنفيذها. توقف العمليات العسكرية في غزة أعطى الوزير باراك فرصة الاستفسار من كوندوليزا رايس، عن الهدف السياسي الغامض الذي تتوجه نحوه مفاوضات السلام: هل إنشاء الدولة الفلسطينية يضم الضفة الغربية وقطاع غزة معاً، أم واحدة منهما فقط؟! وكان جواب رايس غامضاً مثل عملية السلام، لأن انكار دور"حماس"سيحرم عباس من نصف دولة... في حين أن إشراك"حماس"سيحرم عباس من تأييد ايهود اولمرت. والرهان في الحالين متوقف على المفاوضات المتعثرة بعد مغادرة جورج بوش البيت الأبيض. عندها تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة التي استمرت أكثر من ستين سنة، على أمل أن يبقى من"البروة"التي تحدث عنها صدام حسين ما يكفي لغسل ذنوب الذين استثمروا القضية الفلسطينية! پ* كاتب وصحافي لبناني