من رجع ذاكرة خريفية، ينسل اسكندر حبش خيوط قصيدته، مستعيناً بمفردات ضامرة، خافتة، لابتكار نسيج شعري شبحي، قوامه أطياف آفلة، تسكن فضاء العبارة، لتتوزع بين سراب الحلم وقوة الغياب. ولأن"الحياة"قائمة في جوهرها على الغياب، كما يصورها في ديوانه"الذين غادروا"، الصادر عن دار النهضة العربية 2008، نرى قصيدته تغرق في الشجن، متقصيةً معاني الرحيل والعبور والموت، ومتكئةً على انسيابية لفظية تنكفئ إلى الداخل أحياناً، لتتقصى متاهات الذات وتناقضاتها. ولأن حبش ليس بشاعر ضاج أو صاخب، ولا تغويه البلاغة وبهرجها، نراه، في كثير من الأحيان، يهمس همساً، وينزوي بعيداً من القاموس وتوليفاته الصرفية والنحوية، مفضلاً النزر اليسير من المفردات لتشييد معماره الشعري. وهو بذلك يستعيد جماليات القصيدة"الشفوية"، من دون أن يغرق كثيراً في هذرها اليومي وتفاصيلها المجانية. وعلى رغم قربها وألفتها، فإن قصيدته ليست سهلة المنال، فبساطتها صعبة ومربكة، وغالباً ما يفلت المعنى من قبضة القارئ، بسبب اعتماد النص على المونتاج وتقطيع الصورة، وانتشال المعنى من نسقه الدلالي المألوف. والمؤكد أن حبش يتكئ على وقفة وجدانية تقليدية، منبعها حساسية رومانسية متأخرة، نراها تتجلى بوضوح في تلك النبرة الرثائية الخفيضة التي تكاد تطبع الديوان بأكمله. هذه النبرة تفتتح قصيدته الأولى"بعض حواف الليل"، التي تتكلم في مقطعها الأول عن حياة مصنوعة من ظلال، طارحة سؤالاً قاتماً يشكل النواة الدلالية لرؤيا القصيدة:"ماذا أفعل بهذا الغياب؟"والغياب مفردة نمطية تتكرر في معظم قصائد المجموعة، لكنها تأخذ صوراً وإيقاعات مختلفة، تجسدها، على العموم، امرأة غائبة - حاضرة، تتقلب بين برزخي الممكن والمستحيل، وتطغى صورتها السرابية على مقاطع القصيدة الخمسين، مسجلةً حال انسحاب من العالم الحسي، وابتعاد عن الرغبة الجنسية التي تضمحل وتذوي، ويدلل عليها المتكلم في استسلامه لخدر الذكرى، وإدراكه المأسوي لشيخوخة الرغبة:"تولمين للطائر/ وألملم ما تبقى من جسد،"أو"انظري/ هو الثلج/ بلا رائحة/ يأتي ويشيخ طويلاً". هذا الانسحاب من حديقة الحواس يخلخل المستقر العاطفي في وعي العاشق، ويجعل الحياة بالنسبة إليه جرعة ألم لا تترك أثراً سوى وجيب الصمت:"ارم/ هذا الألم/ تماماً كحصاة/ كي يطفو الصمت على سطح/ المياه". بيد أن فكرة المغادرة أو الانسحاب، والتي تشكل الهاجس الأقوى في المجموعة، تدفع الشاعر إلى مطاردة صور أولئك الذين غادروا، وظلوا معنا، بأطيافهم وأحلامهم، يسكنون نهاراتنا وليالينا، وتدعوه لاستنطاق الصدى الذي يخلفه هؤلاء وراءهم. هكذا يصبح المتكلم العاشق في القصيدة الافتتاحية رائياً راثياً، يستسلم لفيوض الذاكرة المعطوبة، حتى أن المحسوسات في الطبيعة، والتي تمثلها مفردات متلاحقة من مثل ثلج، ليل، شجر، وردة، طير، عتمة، صيف، ضوء، مياه، نبع، جسد، نهد، عطر، وسواها، تبدو مشروخة بالغياب، تسقط في الصدى، وتصير ذكريات عابرة:"الأزهار أيضاً/ ذكريات نتركها/ قبل/ أن تجف المياه."أو"أخطو إلى وجهك/ لم ألمس الورقة الخضراء/ ولا النهد المحموم بالصدى". هذا الصدى يعززه هاجس المغادرة، المرتبط جوهرياً بفكرة الزمن، وبمفهوم العبور من حال إلى حال. بل تعمقه رؤيا الشاعر لوجود يزداد هباء، متحولاً أصداء بعيدة، طيفية، تنتهي في مزق لغوية مبقعة بالغياب:"هي حياة/ نولم لها/ كي لا يسقط ظلٌ / في نهاية الكلام". ويركز حبش على تلك الأصداء التي تحاول سكن العالم الخاوي، ليصبح الصدى جوهر كل شيء:"السجادة/ تصغي أيضاً/ لصدى الفصول". وفي المقطع السابع عشر، يصبح السؤال أكثر تراجيدية، حين يبدأ المحسوس بالتلاشي تحت وقع هذا الغياب:"لمن هذا الحجر البركاني/ الذي يلملم/ نظرات شاردة؟". والحجر يستعير الصدى لكي يوجد، لكن الفقدان أقوى وأسرع:"فوق الجسد فقدنا/ طفولة/ فقدنا عائلة". والحق أن الفقدان يرفرف عالياً في أكثر من قصيدة، ما يجعل لغة حبش تبدو كأنها خلاصة لغرضي الرثاء والتأمل، حيث نجد المتكلم يرثي موات الجسد، من جهة، وفي الوقت ذاته يتأمل اندحار الرغبة أمام صدى الرعشة:"أحب هذا النور/ الذي يلي الرعشة"، أو"ستكونين الضوء/ حين تنقصف النبتة/ التي أزهرت على الحائط". وما انقصاف النبتة سوى انقصاف رمزي لطاقة الجسد، ونعي مبكر لحسية الأشياء، ما يدفع الشاعر للهاث خلف النور وليس الرعشة، ومعانقة الضوء وليس النبتة المزهرة، مطارداً الطيف الهارب للمرأة في المرآة، ناسياً"ركبتها"المغسولة بالبرق. ويتوج اسكندر حبش رؤيا اليباب العاطفي هذه بالدعوة إلى التمسك بسراب الحلم، وإبقاء الجسد طائراً في مدار التمني، منفياً خارج دائرة التحقق:"لا تعودي إلى اليقظة/ اتركي الجسد قاحلاً/ اتركيه يتبدد/ في كسور ظلنا،"ليختتم قصيدته بإعلان صريح عن موت البرهة، وانتصار الرجع البعيد للذاكرة المثقلة:"نموت في هذه العتمة/ لنعيد الليل إلى ذكرياته."وأظن أن الموت هنا ليس تموزياً أو قيامياً، كما درجت عادة شعراء الحب الأفلاطوني على تصويره، ولا يشي بانبعاث رمزي قادم، بل يمثل تأكيداً لفكرة السقوط الأول، سقوط آدم وحواء من الجنة، واندحار البراءة كقيمة رمزية خالصة، كما يشير المقطع الختامي:"لكننا نسقط/ فجأة/ داخل هذه الريح". هذا السقوط يستمر في قصيدته الثانية"أيام لم تغادرنا"، والتي تمثل تنويعاً أسلوبياً ودلالياً على فكرة الغياب إياها، ونرى حبش يعمق غرضي الرثاء والتأمل المقترحين في القصيدة الافتتاحية، عبر تركيزه على لازمة شعرية تتكرر في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة الأربعة عشر، إذ تبدو فكرة الزمن مركزية، وتأخذ صيغة سؤال بلاغي يحمل إرهاص إجابته في ثناياه:"لماذا هذا الوقت يحفر أخدوده/ لماذا هذه المياه الثمينة تتبخر؟". فالوقت يحفر بإزميله لوحة الغياب، والحس يتلاشى في هيئة مياه تتبخر، لتحضر الحبيبة من جديد كذكرى مؤلمة، مطرودة من جنة الحواس:"سأسمي الدرب صحراء/ كي لا يرجع وجهك إلى حديقة"، وتنتهي القصيدة، كسابقتها، برؤيا عتمة تهبط، وضوء يتكسر في اللغة:"يمتد النور/ يتكسر فوق العبارة"هذا التكسر، يعمق العلاقة بين فعل الكتابة وفعل الرحيل أو المحو، فكلاهما سفر في المجهول، ومحاولة لعناق الغياب أو اصطياد المعنى الهارب. وينهض الموت كأقسى تجل للغياب في القصيدة الثالثة المسماة"تنويعات على الليل"، والتي يهديها الشاعر إلى الراحل سمير قصير، وفيها يسوق شذرة للشاعر الفرنسي بيير جان - جوف تؤكد على محورية الغياب في وجود الكائن، حيث"ما من شيء يكتمل إلا في غيابه."وهنا يحاول الشاعر أن يستعيد صورة الغائب، داعياً إياه أن يفسر هذا السواد الكامن في الحروف، ويقرأ العتمة كعراف إغريقي:"ثمة ليل كثيف في هذه الكلمات./ اقرأ الصفحات/ بصوتك اللزج/ بصوتك المخنوق."وفي المقطع العاشر من القصيدة، يتوسل حبش إلى الطيف أن لا يسقط في الظل مرتين، مستنهضاً فكرة المخلص الذي لا بد من أن يولد من آلامه، ويعيد للطبيعة براءتها المفقودة:"لا تذهب بعيداً في الظلال/ أنت الذي يبحث في المياه/ عن ثلج/ عن ذكريات/ عن كلماتٍ/ تحملنا من هذا الليل". ويدرك حبش غنى الدلالة الرمزية المكنوزة في هذه العودة، والتي تأتي كتكثيف لنور شاهق، يسقط على يباس العالم، ويبرق فوق جليد اللحظة كنور مخبوء:"هاأنت/ كنقطة نور تقع فوق الجليد". ويختتم حبش ديوانه، بمجموعة قصائد قصيرة، ليكون الديوان حقاً تنويعاً على موضوعة الغياب، بدءاً من الحبيبة الغائبة، مروراً بالذات ووعيها التراجيدي بغياب الأنا، وانتهاء بموت الآخر، الذي يعكس بدوره موت الأنا. ويتوج الشاعر هذه الرؤيا بجملة ختامية كئيبة، ترى الحياة برمتها هباءً منذراً:"كأن تتذكر هذا الهباء/ الذي أسميته يوماً/ حياتك". وهنا، في هذه الخاتمة، يعانق الهباء الغياب، أو الرثاء التأمل. ومن برج الهباء الشاهق، الذي يطل على عدم المكان واللغة، يجد الشاعر نفسه محاصراً بأطياف الغائبين، الراحلين، فيتسكع مع أشباحهم، ويصغي إلى وقع خطواتهم، ويدوِّن صدى انسحابهم أو رحيلهم. وعلى رغم تكرار بعض الاستعارات والرموز المرتبطة تحديداً بموضوعة الغياب، الطاغية في معظم قصائد الديوان، إلا أن ذاكرة حبش الخريفية جاءت معززة بشفافيةٍ تعبيرية لافتة، وهي لا تخلو من تنويع وتجديد، إذ عرفت كيف تهرب من النمطية، وتتخطى البنية المجازية المتوقعة للغة الشعرية. وقد بدت بعض المقاطع، مطمئنة، شيئاً ما، لنظامها الرمزي المنجز، وأحياناً مستسلمة له، ربما لأن حبش يراهن على دور التقشف البلاغي في شحذ الفعالية الجمالية للقصيدة، عبر تنظيف نصه من الفوضى الدلالية، وذهابه إلى الصياغة الفنية الأكثر اختزالاً وتكثيفاً، ونقش المعنى في أقصى البياض"كنقطةٍ من ليل".