ألف اتصال في يوم واحد.. ل"مركز911"    الرياض تستضيف مجلس "التخطيط العمراني" في ديسمبر    تطوير التعاون مع صربيا وإندونيسيا في النقل الجوي    أكدت تمكينه وتوسيع أثره بالقطاعات الحيوية.. وزارة "الموارد": تنمية القطاع التعاوني للمساهمة في مستهدفات رؤية 2030    أكد أنها تعكس الالتزام بتحقيق أهداف التنمية.. البديوي: أجنحة دول التعاون في "إكسبو" تجسد الإرث الحضاري    مصرع 4 أشخاص في تحطم طائرة صغيرة بالنمسا    "جوجل" تطلق"Veo 3″ لتوليد الفيديو بالذكاء    أوكرانيا تستهدف قاعدة جوية روسية    أكدوا مواصلة إيران للتخصيب.. قلق أوروبي من انهيار جهود استئناف المفاوضات النووية    سان جيرمان يقصي البايرن ويتأهل لنصف نهائي المونديال    في نهائي الكأس الذهبية كونكاكاف 2025.. أمريكا تسعى للقبها الثامن.. والمكسيك ل" العاشر"    دموع نيفيز وكانسيلو.. الجانب المنسي في كرة القدم    بلاغ من مواطن يطيح بمروجين للمخدرات    يقتلع عيني زوجته بحثاً عن كنز أسفل منزله    حظر الهواتف الذكية يعزز التركيز في المدارس الهولندية    فسح وتصنيف 60 محتوى سينمائيا خلال أسبوع    رسم إبداعي"حي" أمام جمهور جاكس    "الهضبة" يشدو بأغنيات ألبومه الجديد في موسم جدة    باحثون يطورون بلاستيكًا إلكترونيًا صديقًا للبيئة    "صناعة الخوص ".. حرفة تقليدية حاضرة ضمن فعاليات بيت حائل    دراسة علمية ب "مجلة الدارة" تؤكد أهمية الوعي الوثائقي في حماية التراث الوطني    نادي الرياض يعين الإسباني"خافيير كاييخا"مدرباً للفريق الأول    بينهم لاعب الهلال.. ترتيب هدافي كأس العالم للأندية    (أوبك +) تقرر زيادة إنتاج ثماني دول لمواصلة دعم استقرار سوق النفط    وزير الخارجية يفتتح المبنى الجديد لسفارة المملكة في موسكو    رابطة دوري المحترفين تتولى الرقابة المالية للأندية    "نيوم"يتعاقد مع الحارس البولندي مارسين بولكا    حماس: جاهزون للدخول في مفاوضات فورية لتبادل الأسرى    الذهب يحقق مكاسب أسبوعية وسط ضعف الدولار    ظهور نادر للفنان المصري عادل إمام بعد غياب طويل    بئر غرس.. ماء مبارك وأثر نبوي خالد    الصدقة في الميزان    «فاكهة الصيف».. تعود للأسواق    أمير الشرقية يعزي أسرة الراجحي    الشؤون الإسلامية بنجران تغلق 460 بلاغاً    نيابة عن أمير الرياض.. أمين المنطقة يحضر حفل سفارة راوندا    اتفاقية صحية لدعم وتثقيف المصابين بالأمراض المزمنة    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالمحمدية في جدة يُعيد قدرة المشي ل"ثمانيني" بعد ساعتين من استبدال مفصل ركبة    جمعية ثقفني وفرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بمنطقة القصيم يوقعان شراكة مجتمعية ضمن فعاليات الملتقى للقطاع غير الربحي في التعليم والتدريب لعام 2025م    أمين منطقة القصيم يوقع عقد صيانة شوارع بنطاق بلدية الصفراء بمدينة بريدة قرابة ١٧ مليون ريال    ماسك يصف القانون «الكبير والجميل» لترامب بمشروع «استعباد الديون»    حرس الحدود يقبض على (6) إثيوبيين بجازان لتهريبهم (138.3) كجم "حشيش"    "المياه" السعودية تنفذ 19 مشروعًا مائيًا وبيئيًا في جازان    البدء بصيانة جسر خادم الحرمين وتقاطع الملك عبد العزيز بالدمام    ضبط (17863) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    رياح نشطة وأتربة على عدة مناطق في المملكة    محافظ صبيا يُدشّن حملة "لقمتنا ما تنرمي" للتوعية بأهمية حفظ النعمة في المناسبات    جمعية الدعوة بصبيا تُطلق الدورة العلمية الأولى لعام 1447ه بمحاضرة عن فضل العلم    جامعة أمِّ القُرى تنظِّم مؤتمر: "مسؤوليَّة الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري    الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بنجران تطلق فعاليات برنامج أولمبياد أبطالنا 2025    قطاع ومستشفى ظهران الجنوب يُُنفّذ "اليوم العالمي لمكافحة التدخين"    قطاع ومستشفى المضة يُنفّذ فعالية "اليوم العالمي لسلامة الغذاء"    "ملتقى خريجي الجامعات السعودية يجسّد جسور التواصل العلمي والثقافي مع دول البلقان"    تأشيرة سياحية موحدة لدول مجلس التعاون.. قريباً    911 يستقبل 2.8 مليون اتصال في يونيو    الأمير جلوي بن عبدالعزيز يرعى حفل انطلاق فعاليات صيف نجران    ترامب يهدد بترحيل ماسك إلى جنوب إفريقيا    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي كنعان في ديوانه "أبجدية الينابيع" بلاغة التذكر والعودة إلى الجذور
نشر في الحياة يوم 05 - 11 - 2007

يصحو الشاعر السوري علي كنعان على ماضيه، ويقف على أطلال تلك الجنة التي كانت يوماً طفولته، ويسترجع، في ديوانه الجديد"أبجدية الينابيع"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007، تفاصيل حياته في ريف بعيد، يصبغ عليه جماليات الحنين، متكئاً على الصورة البلاغية الرنّانة، والنبرة الخطابية العالية. وإذا كانت الذاكرة هي منبع هذه الاستعادة وموجّهها الرئيس، فإنّ صيغ التداعي والاسترسال والتذكّر تهيمن على خطاب الشاعر، ويتقدّم زمن الفعل الماضي ومرادفاته ليحتلّ إيقاع السّرد الشعري، مرخياً بظلاله على الأسلوب ذاته، الذي يتّسم بمزايا دلالية ومجازية تقليدية، فنرى اتكاءً على محسنات بديعية نمطية، تسوسها رؤيا شعرية يقينية، تستوفي متطلبات وحدة القصيدة، بالمعنى الكلاسيكي، فلا يجنح النص إلى غموض، ولا يقترب من مفارقة، ولا يخوض في متاهة، ولا يستأنس حتىّ بتضادّ. هي، إذاً، شعرية مطمئنة، واثقة من نظامها الرمزي، تعيدنا إلى مناخ الستينات الشعري في سورية، الذي شكّل صيغته النهائية، إضافة إلى أدونيس، شعراء مثل محمد عمران وفايز خضور وممدوح عدوان وشوقي بغدادي، ممن تأثروا بمفهوم القصيدة الملتزمة، المستندة إلى إحالات خارجية قسرية، سياسية واجتماعية وأسطورية.
ولأن العودة إلى الماضي مؤشر خفي على إفلاس الحاضر، نرى أن الذاكرة تلعب دور الوسيط بين لحظتين متناقضتين، حيث التذكّر يسبق الاستشراف، والحنين يسبق الحلم. ومن المفيد أن نشير الى الشاعر الإنكليزي كولريدج كان قد ميّز بين نمطين من الخيال الشعري، الأوّل كلّي مرتبط بذات إلهية عليا، يشعل شرارة الإبداع، ويضيء جذوة الإلهام، والثاني ثانوي مرتبط بالذاكرة، ينحصر دوره في تنظيم هيكلية العمل، وتنسيق صوره واستعاراته وأفكاره. وعلى ذلك، وبسبب هيمنة آلية التذكّر، نجد أن كنعان يستند إلى النوع الثاني في رسم مشاهده، وتحديد طووغرافيا قصيدته، في عودة إلى أبجدية الينابيع الأولى، كأنما للاحتماء بالنموذج الأعلى، وتكريس المكرّس.
من هنا نلحظ أن الديوان يعتمد تقنية الإرجاع، جمالياً وفكرياً، وحتى أسلوبياً، للقبض على زمن هارب، والفوز بفردوس مفقود. إنه زمن الشباب الذي ولّى، وفردوس القصيدة الذي يشهد انحساراً. هذه الاستعادة، بدورها، تُغرق النص بالترجيع الذهني والدلالي، وتغلّبُ الصّدى على الصوت، والفكرة على العبارة، والمفهوم على الرؤيا. حتى الإيقاع، القائم جوهرياً على الترجيع العروضي، لا ينبثق من تموّجات الشعور الداخلي، أو من صراعات الذات وتقلّباتها، بل نراه يأتي منجزاً، مكتملاً، يعكس خبرة طويلة وحاذقة، خصوصاً إذا علمنا أن الشاعر بدأ بنشر قصائده منذ أوائل الستينات من القرن المنصرم. وبسبب ضمور قوة الخيال كطاقة إلهام، واختفاء التلقائية، على أر ذلك، تطفو على السطح الصنعة الأسلوبية، وتبرز حرفة التدوير والمونتاج والصقل، على حساب تراجع التوتر الداخلي للقصيدة، وغياب رجفة المعنى، المتعدّد والموارب والعصي.
والديوان برمّته قائم على شعور بالفقدان، يقترب أكثر من تخوم المرثية الذاتية، التي تشهد سقوط المثال الأعلى، وانحدار الحلم إلى حضيض الواقع، المحكوم بقانون الضرورة، ما يستلزم شيوع القبح الأخلاقي، وتغلغل الشيخوخة في عروق الناس والأشياء. هذه النظرة الأخلاقية تربط عالم الحواس بالخطيئة، وتفترض، بوعي أو من دونه، أن الأرض دار عقاب لآدم الذي سقط من علوّ روحي. والديوان غني بتلك الوقفات الأخلاقية، التي تنعى موتَ الجمال في الطبيعة، كما في قصيدة"أوراق متناثرة"التي تشكو العوز الروحي، حيث الربيع، فصل الانبعاث والخصوبة، يأتي فقيراً، قاسياً:"يا للربيع الضنين!/ كيف يأتي بلا كمأة أو مطر؟/ ألا يستحي من أسى عاشقيه؟ رفوفُ حمامٍ تهاجرُ/ راعٍ يردّ القطيعَ الذي أنكرتهُ البراري/ وقد كسرَ الناي ...". ولا يتعب الشاعر من رصد مشاهد مشابهة، تظهر فيها الذات ملتصقة بالطبيعة، متّحدة بها، لكنها سرعان ما تنفصل عنها، وتعيش غربتها ويُتمها وفقدَها، ما يساهمُ في بلورة وعي كئيب، يعي اتساع الهوة بين الذات والمثال:"الدوالي التي أرضعتنا/ رحيقَ مسرّاتها/ في طقوس البيادر/ ومزجنا عصائرَها بالثلوج/ لم تخلّف طوالَ الشتاء/ غير لسع الدخان". يطلع الدخان هنا ليحجب الرؤيا، ويختفي بياض الثلج، مندحراً أمام ذاك السّواد المجنّح. وتتواتر لحظات الانكسار في الديوان، فيجد الجسد نفسه أمام مواته البطيء، غير قادر على إيقاظ الرغبة، أو معانقة لذة أضحت بعيدة، تراوغ القلب، وتخدع البصر:"طائرٌ شكّ منقارَه/ بين رمّانتين،/ غاصَ حتى اختلى بالشّغاف/ ولكنّه جنّ... لا يرتوي/ ربما خذلتهُ الرياحُ/ ربما فاته موسمُ النَزَوان". هذا التحول من الفعل إلى الأثر، ومن الصوت إلى الصدى، يفاقم غربة المتكلّم وشعوره باللاجدوى. في قصيدة"بحران"، الأكثر تكثيفاً في المجموعة، والأجمل في تقديري، يبدأ الشاعر بالمثال الأعلى، وينتهي بالواقع اليومي المبتذل. يبدأ بالطفولة وينتهي بالشيخوخة. ينطلق من حلم، ويصحو على كابوس. تبدأ القصيدة بمطلع غنائي، ملون النبرة، مشرق الدلالة:"تحارُ المرايا/ بأي العصارات ترسمُ/ وجهَ الغزالة،/ بالعشبِ، بالطين، بالمسكِ/ أم بالضياء."والغزالة هنا رمز لمثال مشتهى، يسكن ركناً قصياً من مخيلة الشاعر. تتواتر مفردات العشب، الطين، المسك، الضياء لكي تمسك بذاك المثال، وتحيلنا إلى فردوس الطفولة الأبعد، مهدنا الأول. والمرايا تحار هنا في تمثيل الصورة، لأنّ ما تعكسه يفيض على حوافّها.فالطفولة امتلاء، أو دلالة رفيعة، عصية على التمثيل والاستعادة. لكن الانفصال سرعان ما يحدث، ويبدأ وعي تراجيدي بالتشكّل، ويشعر المتكلّم أن الحلم خدعة، وأن وجه الغزالة ينأى ويغيب، فيصحو في المقطع الثاني والختامي على رؤيا القحط واليباب والعزلة:"وألمحُ في آخرِ الدّرب/ لوعةَ قلبي/ تريقُ رؤاها،/ على صفحةِ الشّفقِ المستكين/ ولا من سنونوةٍ في الجوارِ/ ولا من نديم". هنا يهبط الغروب، ويقترب المتكلم من خطّ الزوال الأخير، فيرى المشهد خاوياً، يرنّ بالعزلة، ويسمع قلباً يبكي، ولوعةً تُراق، وصحبة تنفضّ. ويتوّج كنعان هذا الأسى بقصيدة"سبعون خريفاً"، التي تعكس سيرة ذاتية، تدوّن بلوغَ الشاعر السّبعين من عمره، حيث تتكرر لازمة"كان يا ما كان"أكثر من مرة في القصيدة، في تتويج واضح لاستمرار آلية التذكّر، وإقصائها آلية التخيّل، التي تحدّث عنها كولريدج.
ويختتم الشاعر ديوانه بقصيدتين تتحدثان عن الحرب الأخيرة في لبنان، وتنتصران أخلاقياً لأيديولوجيا الموضوع، لكنهما تفشلان فنياً في مستوى رسم الحبكة الدلالية والمجازية للقصيدة، حيث ترخي المناسبةُ بثقلها على لغة الشاعر، وتتكرر نمطياً مفردات الشجب والاستنكار والاستهجان للحرب، في استعادة سهلة لمقومات القصيدة السياسية الملتزمة. في القصيدة الأولى يتحدّث الشاعر عن مجزرة قانا الرهيبة، ويفتتحها بالقول:"ضبابٌ دمارٌ دماء/ دروبٌ موشّحةٌ بلحومِ البشر"، لينتقل إلى وصف مواكب المعزّين في الطرقات حيث"التوابيت ملفوفة بدموع الزغاريد"، ويسأل:"كيف التقى منجلُ الموت/ في حضن قانا/ بأفئدة الأمهات؟". في القصيدة الثانية"تهويمات"، المهداة إلى صيف بيروت، ترتفع النبرة الخطابية، ويسمع القارئ سيلاً متدفقاً من النعوت النمطية التي تصف همجية الحرب. نعلم أنه في قصيدة المناسبة، التي تنتمي إليها القصيدتان الأخيرتان، تتراجع الدلالة وتحضر المقولة. تهيمن الفكرة، ويخفت الرّمز. تكثر أدوات النداء والتعجّب والاستفهام، وتتراجع قيم التلميح والإشارة والتضمين، وتتحوّل القصيدة وثيقةً تاريخية تؤرخ حدثاً، أكثر منها وقفة جمالية تتأمّل العالم.
إن لغة كنعان، في بنيتها الدلالية والأسلوبية والإيقاعية، تنتمي إلى النمط الشعري الجاهز، المرتبط جوهرياً ببلاغة التراث. لغة اختارت أن تظل رهينة حساسية جيل الستينات، الملتزم قضايا فكرية وعقائدية راسخة. وما بحث الشاعر عن"أبجدية الينابيع"سوى محاولة للبقاء في تلك المنطقة الآمنة التي يمثلها التقليد الشعري القوي. هنا تصبح القصيدة استعادة أبدية لماض لا يموت، تبني عالمها على مثالٍ غير قابل للتخطّي أو التقويض، بعيداً من قلق الحداثة وأوهامها الراهنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.