شهدَ العالم 24 أزمة اقتصادية منذ عام 1971، بمعدل أزمة كل سنة ونصف سنة، واختلفت في حدّتها وأثرها على الاقتصاد العالمي. بعضها كان محدوداً ومحصوراً في بلد المنشأ، وبعضها توسّع ضمن قطاعٍ اقتصادي متعدّد الجنسية، مثل المصارف أو المعلوماتية، وفئةٌ ثالثة كانت لها أبعادُ عالمية أكثر شمولاً. وسجّلَ قطاعا المصارف وأسواق خدمات المال أكبر عدد أزمات بين 1971 و2008، إضافةً إلى أزمات ترتبطُ بهما. واحتلّت أزمات المال واجهة أزمات البلدان كما حدث في بلدان آسيوية، وفي البرازيل وروسيا عام 1998، وتركيا والأرجنتين في 2001 ثم البرازيل 2002. وتأتي أزمة الرهون العقارية العالية الأخطار، وخسائر البورصات العالمية بين 2007 و2008، لتنذر بأسوأ أزمةٍ اقتصادية قد يشهدها العالم منذ ثمانية عقود. ويبدو لغاية الآن أن العالم عاجزٌ عن احتواء تأثيراتها ولجم تردّداتها، وهي تدفع بتموّجاتها إلى بلدانٍ أخرى وتتوسّع دوائرها متجاوزةً إجراءات الإدارة الأميركية في خطة النهوض الاقتصادي بقيمة 154 بليون دولار، وقرارات مجلس الاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الأميركي، خفض الفائدة القياسية القصيرة الأجل، وضخ السيولة إلى البنوك لمدّها بمؤونة مالية تلبي بها حاجات الطلب والجفاف المالي في الولاياتالمتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي واليابان. وتشكّل الولاياتالمتحدة قطباً اقتصادياً رئيساً في العالم، إذا تهاوى، أضامَ معه معظم البلدان، نظراً إلى موقعه في قلب هذا النظام الاقتصادي المتعدّد الوجوه والغايات. تكفي معرفة أن الأميركيين ينفقون ما يقرب من 10 تريليونات دولار على استهلاكهم الخاص في السنة، ليدرك العالم مدى حاجة الدولة العظمى إلى"مصنع"متعدّد الجنسية، وإلى إنتاج المصادر العديدة للمواد الأولية المنجمية والزراعية. فالصينُوالهندُ، مجتمعتان، لا تستهلكان بأكثر من تريليوني دولار في السنة، وأن تقلّص قدرة الأميركيين على الإنفاق، لن تُعوّضها زيادةُ الاستهلاك الداخلي لديهما أو لدى بلدانٍ ناشئة أخرى. ومهما دفعت إدارة الولاياتالمتحدة من أموالٍ لزيادة قدرة الإنفاق لدى الأسر الأميركية، فإن الأخيرة فقدت دعماً مادياً قوياً مع انهيار قطاع العقارات وركود الاقتصاد وتفشي البطالة."فارتفاع سعر برميل النفط فوق 100 دولار يثقلُ كاهل المستهلكين، ولا تزال معدلات البطالة ترتفع. ومع انهيار سوق العقارات، لم يعد في إمكان الأميركيين الذين نضبت أموالهم، أن يستعملوا منازلهم كمصدرٍ لتمويل هوسهم بالتسوق. فالاقتصاد الأميركي لم يعد يواجه أزمة عابرة، لقد بات الآن في المراحل الأولية من نوبة مؤلمة ومزمنة"فوراين بوليس. تشكّلُ الولاياتالمتحدة شريكاً تجارياً مهمّاً لمعظم البلدان المتقدمة أو المنتجة للنفط أو الناشئة، فهي تستورد نحو 26 في المئة من إجمالي النفط المستورد في العالم، ونصيبها نحو 41 في المئة من الصادرات الآسيوية للسلع والبضائع، وتشمل الشرق الأوسط وتركيا، ونحو 19 في المئة من الاتحاد الأوروبي. ويتوجّه إلى أسواقها 24 في المئة من صادرات بنغلادش، و23 في المئة من صادرات اليابان، 22 في المئة من صادرات الصين، و21 في المئة من صادرات الهند وفيتنام، 20 في المئة من صادرات ماليزيا وكمبوديا، 16 في المئة من صادرات الفيليبين وهونغ كونغ وتايلاند، ونحو 15 في المئة من صادرات كوريا الجنوبية. ويكاد لا يخلو بلدٌ من علاقة تجارية مهمّة مع هذه الدولة. ويزيدُ هذه الدول هلعاً، هبوطُ سعر الدولار، لأنّه مؤشّر سيئ لها، يجعل سلعها وبضائعها غالية الثمن في مقابل حركة تجارية عكسية للبضائع والمنتجات الأميركية. ويرى اقتصاديون أن إجراءات خفض الفائدة حالياً لن يكون لها أثر سحري على الاقتصاد ليتعافى كما في 2001 عندما خفّض مجلس الاحتياط الفيديرالي الفائدة من 6.5 إلى واحد، والمركزي الأوروبي من 4 إلى 2، وخفّض الياباني فائدته إلى صفر. فالبنوك المركزية اليوم هي مقيّدة بسبب ارتفاع معدلات التضخم. كما قد يسيء خفض الفائدة الأميركية المقرون بتدني قيمة الدولار، إلى الاستثمار الأجنبي، ويتراجع تمويل الديون الأميركية. فالولاياتالمتحدة مديونة بأكثر من 9 تريليونات دولار، ومعدّل الدين عندها يرتفع أكثر من ارتفاع الإنتاج بأربعة أضعاف، إذ، تجاه كل دولار دين، لا تحقّق البلاد أكثر من 25 سنتاً جديداً، من الثروة الحقيقية. وتجاه العوائق المانعة لتفعيل اقتصاد البلاد، تسعى الإدارة الأميركية، إلى اتخاذ إجراءاتٍ تجعل مجلس الاحتياط الفيديرالي في موقع يخوله ليكون المنظم الرئيس لاستقرار السوق، فتوسع الخطّةُ قدراتِه على رقابة البنوك التجارية والمؤسسات العاملة في الخدمات المالية، مع التشديد على النظام الحالي المتعلق بالبنوك التجارية. وبموجب الخطة الجديدة، يصبح مجلس الاحتياط الفيديرالي الأداة الحكومية الوحيدة التي تضبط السوق وتحافظ على استقرارها، وتستطلع أحوالها باستمرار. مثلُ هذه الإجراءات، التي تطمئن الأسواق العالمية، تلاقيها البلدان الناشئة - خشية الانعكاسات السلبية - بإجراءات تخفّف من وطأة ضغوط التضخم. فالصين التي تتوقع تراجعاً بنحو نقطةٍ واحدة عن معدّل نموها القياسي عند 10.7 في المئة لهذه السنة، تعرفُ جيّداً أن سبب التراجع هو تقلّص حجم صادراتها نحو أميركا، وأن عليها أن تضبط معدل التضخم لتحافظ على قدرة استهلاكية محلية تعوّضها الخسائر المتأتية من الخارج، وتحفظ لها تكلفة إنتاج معقولة قادرة على المنافسة في أسواق المقصد. لكن الأسواق الأقل ارتباطاً بالتبادل التجاري مع الولاياتالمتحدة، هي أقل عرضةً للاهتزاز. فروسيا، التي أعادت تقويم معدل نموها لهذه السنة، حسّنت توقعاتها، على رغم زحف التضخم واسعاً إلى أسواقها. في هذه المقاربة بين الإجراءات الأميركية وأوضاع العالم الاقتصادية، ثمّة حقيقة، أن قوّة الإنفاق لدى البلدان الناشئة، وكذلك لدى البلدان المنتجة والمصدّرة للنفط والمصدرة له ارتفعت كثيراً عمّا كانت قبل عقدٍ، وأنّها بالفعل قادرة على أن تعوّض جزءاً من تراجع الواردات الأميركية لسلعها وخدماتها. لكن المشكلة تبقى لدى الدول غير المنتجة للنفط أو غير الناشئة، حتى وإن كانت من البلدان المتقدّمة، وينتظر أن تخنقها الأزمة!