عديدة هي القراءات التي يمكن من خلالها فهم ملابسات العملية العسكرية التركية الأخيرة ضد معاقل حزب"العمال الكردستاني"في شمال العراق، والتي حظيت على غير عادة سابقاتها، باهتمام بالغ وجدال سياسي حامي الوطيس على الصعيدين التركي والدولي في آن. بيد أن أبرز تلك القراءات ما يتصل بأسلوب حكومة حزب"العدالة والتنمية"لتلك العملية وما يحمله في طياته من دلالات في ما يخص تعاطيه مع خصومه المتكتلين في تحالف العسكر مع العلمانيين والقوميين المتطرفين. فما إن وضعت العملية أوزارها على نحو مفاجئ بعد ثمانية أيام فقط من بدئها، حتى تفجر الخلاف، للمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية الأتاتوركية قبل ما يربو على ثمانية عقود، بين أبناء الجبهة القوية، المتمثلة في تحالف الجيش التركي مع العلمانيين المتطرفين بزعامة حزب"الشعب الديموقراطي"، الذي أسسه أتاتورك ليكون قلعة للعلمانية وحصناً للمبادئ الأتاتوركية من جانب، والتيار القومي الذي يقوده حزب"العمل القومي"من جانب آخر، وهي الجبهة التي نذرت نفسها لدعم وحماية الإرث الأتاتوركي في مواجهة الحركات الإنفصالية واليسارية إلى جانب الأحزاب والحركات الإسلامية، وعلى رأسها حزب"العدالة والتنمية"وحكومته، في شأن آليات التعاطي مع حزب"العمال الكردستاني". فعلى غير عادتها ومن دون سابق إنذار، صبت المعارضة التركية بشقيها العلماني والقومي، يوم السادس من الشهر الجاري، جام غضبها على الجيش التركي متهمة إياه بالتقاعس عن أداء واجبه المقدس والملح، الذي يتمثل في مناهضة وتقويض متمردي حزب"العمال الكردستاني"، حينما أعلن انسحابه المبكر والمفاجئ من شمال العراق على نحو أثار حفيظة المعارضة، التي اشتمت في مثل هذا الإجراء رائحة ضغوط أميركية منعت الجيش من إكمال مهمته هناك والإجهاز على مقاتلي الحزب المحظور. وبغير تردد، قابل الجيش التركي هجوم حلفائه العلمانيين والقوميين بآخر مضاد، حيث لم يتورع رئيس أركانه عن إصدار بيان شديد اللهجة دان فيه تعرض الجيش لما سماه الهجمات الحقيرة وغير المبررة، معتبراً موقف أولئك الحلفاء السياسيين أسوأ من موقف من وصفهم بالخونة لأنه يضر بسمعة الجيش وأدائه، كما شدد على أن تاريخ البدء بالهجوم والانسحاب تم تحديده سلفاً من لدن القيادة العسكرية التركية فقط وفقاً للظروف والمقتضيات العسكرية من دون أدنى تأثير أو ضغط سواء من داخل البلاد أو خارجها، مشيراً إلى أن توقيت الانسحاب يتعلق باعتبارات عسكرية بحتة، كالحفاظ على أمن القوات المنسحبة، كما أن العملية البرية حققت أهدافها بنجاح وكبدت حزب"العمال الكردستاني"خسائر فادحة، وبناء عليه جاء قرار الانسحاب الذي يتسق مع ما أعلنته الإدارة التركية مراراً وتكراراً عند بدء العملية من أنها ستكون محدودة ولفترة قصيرة، وأن تركيا ليست لديها أي نية للبقاء في شمال العراق، حرصاً منها على ألا يتحول التفهم الدولي لعملياتها الإجهاضية ضد متمردي حزب"العمال الكردستاني"هناك إلى معارضة غربية تضر بمصالح تركيا وتسيء لعلاقاتها مع الغرب إذا ما طال أمد تلك العمليات. وكان من شأن ذلك الرد العنيف من جانب الجيش أن يضاعف من سخط حلفائه العلمانيين والقوميين، إذ عبر أونور أويمان نائب زعيم حزب"الشعب الجمهوري"عن استياء حزبه من اجتراء الجيش على مهاجمته، مستخدماً كلمة"حقير"في وصفه حزب أسسه أتاتورك وقاد من خلاله حركته التحديثية. ووسط هذه الأجواء المفعمة بالتوتر بين شركاء الأمس، وحدها حكومة"العدالة والتنمية"بدت المستفيد الأول، إذ بدا واضحاً أن الملف الكردي والعمليات العسكرية ضد حزب"العمال الكردستاني"تحديداً يوشكان أن يضعا تركيا على شفا تحول مهم في موازين السياسة الداخلية، بما يقرب بين الجيش وغريمه التقليدي المتمثل في حكومة حزب"العدالة والتنمية"على حساب تنامي التوتر بين الجيش وظله السياسي وحليفه في الدفاع عن الإرث الأتاتوركي والذي يجسده حزبا"الشعب الجمهوري والعمل القومي". ويبدو أن مسحة الدفء الحذر الذي بدأ يزحف ببطء باتجاه العلاقة بين العسكر وحكومة العدالة في الوقت الذي تتجه علاقة الجيش بالمعسكر العلماني نحو التوتر دفع بالأخير نحو العمل على الحيلولة دون جني حزب"العدالة"لثمار الخلاف بين الجيش وحلفائه التقليديين من العلمانيين والقوميين المتطرفين، ومن ثم أعاد العلمانيون فتح نيرانهم على حزب"العدالة"، إذ رفع كبير المدعين في محكمة الاستئناف التركية عبد الرحمن يلجينكايا دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا تطالب بحظر"حزب العدالة"ومنع 71 قيادياً في الحزب من بينهم أردوغان وعبد الله غل ورئيس البرلمان السابق بولنت أرنج من ممارسة النشاط السياسي، بدعوى تبني الحزب لما سماه"أجندة إسلامية خفية"يمارس من خلالها نشاطات منافية للعلمانية كمحاولاته رفع حظر ارتداء الحجاب في الجامعات، غير أن أردوغان واجه الأمر ببراعته المعهودة حينما تعاطى معه من منظور سياسي وطني معتبراً أن هذا الهجوم لا يستهدف حزب"العدالة"وإنما يستهدف الإضرار بالديموقراطية والإرادة الشعبية للأتراك، لاسيما وأن التعديلات الأخيرة في الدستور التركي جعلت من إغلاق الأحزاب السياسية أكثر صعوبة مما مضى. وثمة تصور بأن اتفاقاً ضمنياً أبرم بين واشنطن وحكومة حزب"العدالة والتنمية"من أجل تسوية مسألة حزب"العمال الكردستاني"سياسياً بدلاً من العمليات العسكرية، التي أيقن الطرفان أنها لن تفضي إلى الإجهاز على مقاتلي حزب"العمال الكردستاني"وتصفية القضية عسكرياً، لاسيما وأن حزب"العمال"يمتلك جيشاً من المقاتلين المدربين تعداده ستة آلاف مقاتل ينتشرون على جانبي الحدود العراقية - التركية، وينتهج أساليب حرب العصابات وفق خبرة قتالية تمتد لنيف وربع قرن. وعلى رغم أنه قضى الردح الأكبر من هذه الفترة في نشاطات دموية غير مجدية، إلا أنه نجح في بناء عصابات متمرسة وتنظيمات حزبية واسعة الإنتشار داخل تركيا وخارجها. ومن ثم لن يفضي الضغط العسكري المتواصل عليه سوى إلى لجوء الحزب إلى التعاون والتنسيق مع المجموعات الدينية الأخرى المتطرفة داخل تركيا من جهة، وطلب الدعم من إيران والمجموعات المسلحة داخل العراق من جهة ثانية. ومن جانبها، تحرص الولاياتالمتحدة على عدم تحويل شمال العراق، الذي هو بمثابة الإقليم العراقي الوحيد الذي ينعم بشيء من الاستقرار الأمني والسياسي وكثير من الازدهار الاقتصادي، ما دفع الأميركيين إلى الرهان على تحويله إلى نموذج للعراق الجديد، إلى ساحة حرب مفتوحة جراء العمليات العسكرية التركية المتواصلة هناك، والتي تنذر بجعل المنطقة ساحة لصراعات إقليمية تصعب السيطرة عليها. فهذه المنطقة التي تنشط في جبالها الوعرة مجموعات مسلحة وسياسية معارضة، إيرانية مثلاً، قد تغري دولاً تستهدفها هذه المجموعات بشن عمليات عسكرية لتقويض نشاط تلك المجموعات على غرار ما تفعل تركيا، لاسيما بعد إعلان مسؤول كردي عراقي منتصف الشهر الجاري أن مدفعية القوات الإيرانية قصفت مواقع في ثلاث قرى في مناطق كردية داخل إقليم كردستان العراق تابعة لما يسمى"حزب الحياة الحر"بيجاك وهو تنظيم ذو نزعة انفصالية لأكراد إيرانيين على صلة وثيقة بحزب"العمال الكردستاني". لذا، عمدت واشنطن، بتنسيق وتفهم مع حكومة العدالة والتنمية، إلى جر الجيش التركي إلى عمليات عسكرية فاشلة في شمال العراق حتى تتأكد استحالة الحل العسكري للمسألة الكردية، ومن ثم لا يجد عسكر تركيا وحلفاؤهم من العلمانيين والقوميين المتطرفين مناصاً من القبول بالحلول الديبلوماسية مع حزب"العمال"والتطبيع مع حكومة كردستان العراق، ما من شأنه تجنيب المنطقة توترات هائلة ويحفظ لواشنطن علاقاتها التحالفية مع أنقرة والأكراد في آن، فضلاً عن تعبيد الطريق أمام حكومة العدالة والتنمية لمواصلة مسيرتها الإصلاحية بعد أن يتم كسر شوكة خصومها. ويشي أسلوب إدارة حكومة حزب"العدالة والتنمية"لصراعها مع خصومها بأنها تتبنى مبدأ"التقية"، توخياً منها لاستعادة ثقة الناخب التركي وإثبات عدم انسحاقها تحت ضغوط العسكر وحلفائهم من العلمانيين والقوميين المتطرفين في الداخل أو حتى الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي في الخارج، في الوقت الذي تتلافى استثارة خصومها وتتجنب الاصطدام بهم، وذلك من خلال استراتيجية طويلة المدى غاية في الدهاء ترمي إلى استنزاف أولئك الخصوم عبر استدراجهم نحو مصارعهم على نحو هادئ ثم مباغتتهم بالضربة القاصمة في الوقت المناسب، مثلما جرى من قبل في الانتخابات المحلية، ثم البرلمانية والرئاسية، ومن بعدها إدارة معركة الحجاب، وصولاً إلى أزمة حزب"العمال الكردستاني"حالياً وانتهاء بمسألة الإنضمام الى الاتحاد الأوروبي عما قريب. فلقد آلت حكومة العدالة على نفسها خلال المرحلة الراهنة الجنوح باتجاه عدم المجاهرة بمواقفها الرافضة لطروحات خصومها تجنباً لصدام شديد الوطأة معهم قد يكلفها بقاءها في السلطة مثلما يودي بحزبها ذي الجذور الإسلامية إلى مهاوي التجميد أو الإغلاق، وتتظاهر بانقيادها وراء الطروحات ذاتها وتفسح في المجال، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، أمام أولئك الخصوم لتجشم مغامرة تنفيذ مخططاتهم وتصوراتهم لإدارة الأزمات المختلفة، حتى يسقطوا في الفخ ويدفعوا ثمن رعونتهم. ولقد اتبعت حكومة حزب"العدالة"مبدأ التقية لاستنزاف خصومها من العسكر والقوميين المتطرفين خلال أزمة حزب"العمال الكردستاني"، إذ أعطت، ومن قبلها البرلمان، الذي يهيمن حزبها على غالبية مقاعده، الضوء الأخضر للجيش كي يواصل عملياته العسكرية في شمال العراق ضد معاقل الحزب، بينما لم تجن البلاد من وراء تلك العمليات سوى الانتقادات الإقليمية والدولية والخسائر البشرية في حين لم تجهز تماماً على مقاتلي حزب"العمال الكردستاني"، الذين ما برحوا يواصلون نشاطاتهم حتى اللحظة مؤكدين فشل استراتيجية الحسم العسكري التركي حيالهم. وفي مسعاها لتقليم أظفار خصومها من العلمانيين، تبدي حكومة العدالة مشاطرتها إياهم في حلم انضمام تركيا للنادي الأوروبي ولا تألو جهداً في مواصلة الإصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي المطلوب لتأهيل البلاد لهذا المقصد، على رغم اصطدام غالبية تلك الإصلاحات بثوابت حزب"العدالة"وأسس الدولة المسلمة في تركيا، وعلى رغم تيقن حكومة العدالة من رفض الاتحاد الأوروبي منح تركيا عضويته الكاملة، غير أنها تتخذ من تلك الإصلاحات مظلة للمضي قدماً في مسيرتها الإصلاحية الرامية إلى تحرير حركة أتاتورك من أصوليتها العلمانية وقوميتها الموغلة في التطرف إلى حد الشوفينية، مستقوية بالدعم الأوروبي والأميركي لتلك الإصلاحات، حيث تعي حكومة العدالة أن وصول ركب الأتراك إلى نهاية الطريق بعد تأهيل بلادهم وفقاً للشروط الأوربية المحددة سلفاً، سيصطدم لا محالة برفض أوروبي متستر في حزمة جديدة من الشروط الصعبة، التي قد تدفع بالأتراك إلى الإلتفاف حول حكومة"العدالة"ومباركة حركتها الإصلاحية، والتخلي نهائياً عن التعلق بالسراب الأوروبي. * كاتب مصري