حظيت شخصية السلطان الظاهر بيبرس باهتمام كبير من جانب مؤرخي القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي، وخير من مثلهم المؤرخ المصري أبو الفضل عبدالله الشهير بإبن عبدالظاهر توفي سنة 649ه/ 1250م، فقد فسر غموض شخصية الظاهر بيبرس وسرد أخبارها في شكل متقن وذلك في كتابه"الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر". ويبدو ان موقع ابن عبدالظاهر من السلطان المظفر بيبرس سمح له ببناء سردية تاريخية حافلة بالإثارة والتنوع حول شخصية تعد من اكثر الشخصيات السياسية التصاقاً بالوعي الشعبي العربي والمتخيل الثقافي. وتذكر كتب التاريخ أن السلطان الظاهر بيبرس عهد إلى ابن عبدالظاهر عمل شجرة نسب للخليفة الحاكم بأمر الله أحمد العباسي، الذي اختاره بيبرس خليفة للمسلمين في محاولة منه لإحياء الخلافة العباسية في القاهرة بعدما سقطت في بغداد عام 656ه/1257م، ثم توثقت الصلة بين الاثنين، واستمر ابن عبدالظاهر بمنزلة رفيعة بعد بيبرس وبخاصة في عهد السلطان قلاوون، وبلغ منزلة مرموقة في الأدب فكان شيخ الترسل وصار كاتب ديوان الإنشاء فهو على صلة بفن المكاتبات الرسمية ووصف بالقدرة على البلاغة، ويظهر أن تلك النشأة أثرت في الصورة التي رسمها ابن عبدالظاهر للسلطان الظاهر بيبرس فنحت نحو ايجابيات السيرة وفضائلها بحيث لم يكن ممكناً إلاّ تصوير بيبرس حاكماً قوياً يقظاً، يتابع شؤون دولته متابعة دقيقة، ويراقب ولاتها، ويؤدي مناسك الحج باحترام كبير، وجاء ذلك بلغة رفيعة مسبوكة بدقة، وهذا ما يخالف النمط الآخر الذي صور سيرة الظاهر بيبريس المتخيلة بلغة العامة، فهو سرد عامي جاءت به الرواية الشامية. منذ العام 2000 بدأ المعهد الفرنسي للشرق الأدنى وعبر فرع الدراسات العربية في دمشق وبتعاون جاد مع مؤسسات بحثية أخرى، وبجهد كبير للمحققين جورج بوهاس وكاتيا زخريا باستعادة السيرة الشعبية للسلطان"الملك الظاهر بيبرس"وفق الرواية الشامية، وقد صدرت من السيرة حتى الآن سبعة أجزاء، وما زال المشروع مستمراً. ما تقدمه سيرة الملك الظاهر في جزئها السابع الصادر حديثاً عن المعهد الفرنسي هو إتمام لأحداث الجزء السادس، حيث يبدو الملك المتخيل قابضاً على زمام مملكته، ورعاً تقياً، فهو على لسان الراوي"جالس يقظان غير ناعس ويسلّم على النبي... الخ". وتصور الرواية الشامية المتخيلة مجالس الملك الخاصة على لسان الراوي ومنها"يا ساده يا كرام وأما الملك فإنه بعدما صلى العشا أتوا إلى عنده الندماء ساعة زمان وصرفهم ودخل المقدم عماد الدين بن علقم وسأله الملك عن طول غيابه... ثم قال له احكيلي يا عماد الدين كم سنة غبت في هذه السفرة فقال: أفندم ستة عشرة سنة، قال له: ما شاء الله غيبة طويلة..."ص 49. ويكشف النص عن محاسبة الملك رجال ديوانه وخصوصاً عماد الدين بن علقم، فهو وإن خضع لاستجواب طوال فترة غيبته، إلا أنه في نهاية الجلسة قال: فتلبكِ عماد فقال الملك:"تقدم، لا تستحي! فتقدم عماد وأكلوا وانبسطوا وشربوا القهوة، ثم بعث الملك إلى ابنه السعيد تذكرة ان يتعاطى الأحكام". ومن فوائد السيرة انها تروي لنا كيفية تعامل العاملين في المرافق العامة مع السلاطين والملوك، ومن ذلك ان الملك الظاهر لما دخل حماماً للاغتسال ومعه مقدمه عماد الدين بن علقم، لم يتعرف اليه صاحب الحمام والعمال، لكن في حال التعرف على الملك الظاهر أغلقوا الحمام"وحضروا الند والبخور وأطلقوا العود والعنبر وحطوا منشفة على باب المقصورة"ص 51. تظهر السيرة أن مصدر قلق الملك الظاهر هو"القان هلوون"والمقصود به هنا هولاكو، والغريب ان هولاكو في السيرة الشامية يبدو من أصل فارسي وليس مغولياً، وهنا تروي السيرة كيف اظهر الملك قلقه وخوفه من هولاكو وكيف استطاع المقدم عماد الذي يبدو شخصية رئيسة فاعلة في السيرة، ان يذهب إلى إيران وأن يظهر أن اصله غير عربي وانه عمل في خدمة الملوك، وان اسمه حيدره وكيف اعجب به القان وأعطاه وظائف عدة، وكيف تغلب عليه بالحيلة إلى ان أتى به الملك الظاهر في دمشق وهو مكشوف الجسم من دون لباس بعد ان أذلّه عبر رحلة متعبة في دروب غرب ايران وصولاً إلى حلب ثم إلى حماه ثم حمص فدمشق. ص100-106 قد يبدو ذلك الانتصار الهادئ المتخيل محاكاة لانتصارات الظاهر بيبرس وزميله قطز على التتار في عين جالوت وعلى الصليبيين في معركة المنصورة. وتحرص السيرة على التنويع في رواية اخبار الملك التي تظهر التصاقه بالعامة والحرص على أداء الصلاة وإظهار مراتب الاستقبال التي يحظى بها من جانب الأعيان والعلماء ص 284، كما نجد حضوراً للمنامات والأحلام ص293، ومن دون قصد بينت السيرة أهمية دور المقدم وهو منصب عسكري اضطلع بمهام سياسية في عهد السلطنة المملوكية. وعلى رغم أن"الظاهر بيبرس"في الرواية الشامية هو غير الظاهر بيبرس في المصادر التاريخية التراثية والتي أشرنا إلى نموذجها مع المؤرخ ابن عبدالظاهر في كتابه"الروض الزاهر"، وعلى رغم الدور الذي يضطلع به الخيال في نسج الغرائب وتعظيم الأدوار في الرواية الشعبية الشامية التي هي مدار العرض هنا، إلا أن مثل هذا النوع من الأدب هام في سياق البحث عن الوعي المجتمعي لمسألة تاريخ السلاطين وحياتهم، وقد حاول المحققان الحفاظ على لغة النص قدر الإمكان من دون الذهاب بها إلى لغة المؤرخين الاعتيادية، التي تأتي على درجة من الوقار والترفع عن ذكر فواحش المجتمع وما يعرض فيه، أو نجدها تتعفف عن سرد ما يعرض للملوك والأعيان من أحداث وغرائب. ولعل توالي صدور أجزاء السيرة السبعة لحد الآن يسهم في تقريب الرواية الشعبية حول سيرة الملك الظاهر التي بحسب المحققين يستطيع المرء ان يسمعها في بعض المقاهي الشعبية القديمة في شوارع القاهرةودمشق، فقد تعددت نسخ السيرة الظاهرية في حلب ودمشقوالقاهرة وتوزعت مخطوطاتها، لذا فإن الاختلاف حول السيرة يظل قائماً. لأجل ذلك الافتراق بين سيرة تراثية محكمة في كتب التراث، وسيرة شعبية بلغتها العامية، يستدرك المحققان فيوضحان في مقدمة تحقيق السيرة ص17 أن ثمة اختلافاً بين الواقع والخيال، وأن"بيبرس"في السيرة الشامية هو بطل خيالي، بعيد في صورته عن الملك الظاهر بيبرس العلالي البندقداري الصالحي رابع سلاطين المماليك المولود عام 625ه/1228م والمتوفى عام 767ه/1277م، والذي تخبر بعض كتب التاريخ العربية كپ"السلوك إلى معرفة دول الملوك"للمقريزي وپ"النجوم الزاهرة"لابن تغري بردي وپ"تاريخ الجبرتي"أنه تركي من القبجاق، وأنه بيع في سوق الرقيق وهو في الرابعة عشرة من عمره في سوق دمشق واشتراه الأمير علاء الدين الصالحي البندقداري لينتقل بعدها الى خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب ونشأ في دمشق وأعتقه الملك الصالح معيّناً إياه قائداً لفرقة المماليك. ثم هرب وشارك مع المماليك في معركة المنصورة ضد الصليبيين في رمضان من عام 647ه/1249م والتي تم فيها أسر الملك الفرنسي لويس التاسع في دار ابن لقمان، ثم تولى بيبرس السلطنة في مصر عام 658ه/1260م، ولعب دوراً مهماً في دعم السلطان المظفر قطز في دحره الى المغول في معركة عين جالوت. * أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة فيلادلفيا الأردنية