هل يمكن كاتباً في أوج عطائه أن ينسحب من المعترك الأدبي والإعلامي ويخلد الى حالٍ من العزلة خارج الأضواء؟ هذا لم يحصل في الحركة الأدبية العربية المعاصرة وإن حصل فنادراً ونادراً جداً. الإعلام اليوم أو الصخب الإعلامي هو الذي يصنع"صورة"الكاتب وپ"أسطورته"لئلا أقول"نجوميته". وكم من"نجوم"هم أشبه بالأكاذيب المضخمة التي لا يمكنها أن تواجه حكم التاريخ. جوليان غراك، الكاتب الفرنسي الكبير الذي رحل قبل فترة كان مثالاً يحتذى في عزلته التي اختارها وفي انسحابه من الوسط الأدبي، ولكن من دون أن ينقطع عن الكتابة ولو كان مقلاً. في العام 1951 رفض غراك جائزة غونكور المهمة التي فاز بها عن روايته"شاطئ الرمال"وبدا كأنه يتخلى عن"المجد"العابر الذي لا علاقة له بجوهر الإبداع. وبُعيد الضجة التي أحدثها رفضه للجائزة انقطع عن الحياة العامة وانسحب الى حياته الأدبية الخاصة غير مبالٍ بالفرص الإعلامية والمادية التي كانت ستتيحها له الجائزة. هذا حدث بذاته في عصر يحتل الإعلام فيه المشهد العام، ثقافياً وسياسياً. سمّي جوليان غراك"الكاتب السرّي"وپ"النخبوي"ولم تحظ رواياته البديعة بما يسمى"طبعات الجيب"ولم تعرف الرواج الشعبي الذي كان مقدّراً لها. لكن غراك الذي رحل في الثانية والثمانين من عمره كان يشعر بأنه عاش حياته الأدبية كما حلا له أن يعيشها، وحيداً وحراً، غائباً وحاضراً بشدة في الوقت نفسه. ليس جوليان غراك الوحيد الذي اختار هذا"القدر". كان الكاتب الفرنسي الكبير موريس بلانشو سبقه الى حال العزلة التامة. إلا أن كتب بلانشو كانت تروج كثيراً وبات بعضها، لا سيما النقدي، أشبه بالمراجع التي لا بدّ من اعتمادها لقراءة أدب العصر، وبلغت عزلته مبلغاً حتى أنه كان يرفض أن تلتقط له صورة منذ نحو نصف قرن. وهذا ما كان يربك الصحافة التي لم تملك له صورة. وكان أحد المصورين التقط له صورة غير واضحة فيما كان يسير في الشارع قبل أعوام. خلال عزلته وانسحابه كتب بلانشو أجمل الصفحات في النقد والرواية. وراح من هناك يسائل الكتابة نفسها منفتحاً على الحداثة وما بعدها وكأنه يعيش فعلاً في قلب العصر محافظاً على"صمته الخاص به"كما كان يعبّر. إلا أن المفاجئ أن يعمد كاتب في شهرة الألماني باتريك زوسكند صاحب رواية"العطر"الى الاختفاء أو الانسحاب من الساحة الأدبية والإعلامية. شهدت"العطر"نجاحاً عالمياً هائلاً وترجمت الى لغات شتى وغزت الأسواق والمكتبات وحوّلت فيلماً سينمائياً زاد من رواجها وشهرة كاتبها. لكن الإعلام كان يسأل عن باتريك زوسكند ويبحث عنه ولم يكن يجده. صوره نادرة جداً وحواراته أشدّ ندرة واطلالاته العامة غائبة... كاتب في الثامنة والخمسين من عمره ينقطع عن الشهرة والمجد مستسلماً لحياته الخاصة وشبه الصامتة. الكاتب الأميركي توماس بينشون الذي بلغ السبعين لم يكن غريباً عن هذا"القدر"الشخصي. أحد رواد الرواية الأميركية الحديثة يرفض منذ الخمسينات من القرن المنصرم أي ظهور اعلامي على رغم رواج أعماله. صوره قليلة أيضاً وعزلته لا يكسرها سوى ناشره. كان جان بول سارتر يقول:"يجب الخيار بين الحياة والكتابة". لكنه لم يستطع إلا أن يختار الأمرين معاً. عاش الحياة بصخبها ومجدها وكان نجماً اعلامياً مثلما عاش الكتابة بعمقها وأسئلتها. لكن كتّاباً كثيرين اختاروا"الحياة"في معناها العام وأولوها كثير اهتمام حتى غلبتهم وسطّحت أعمالهم جاعلة منهم في الحين عينه"نجوماً". ويكفي أن يتصفّح القارئ المجلات والصحف ليدرك أن"النجوم"كثيرون فعلاً وأن الأدب الحقيقي قليل. يرى القارئ صورهم بارقة ولامعة، وعندما يبحث عن ابداعهم يجده باهتاً وخافتاً. وكم من كتب راجت وقطفت من الضوضاء سرعان ما وقعت في بئر النسيان. هذه اللعبة يؤدّي جزءاً كبيراً منها الناشرون أنفسهم الذين يهمهم، أكثر ما يهمهم، أرقام المبيع، أي الربح والربح... ترى أي كاتب في عصرنا اليوم يستطيع أن ينسحب من الحياة الصاخبة إعلاماً وشهرة وأن ينكفئ الى عزلة الإبداع متخلياً مثل النساك عن الأضواء والإغراءات الكثيرة؟ ما أصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال!