ما قد يحصل على صعيد الحياة الاجتماعية لو أزاح الأدباء والفنانون ورجال الثقافة الحقيقيون "السياسيين المحترفين"عن"الشاشة الصغيرة"واستعادوا الموقع الذي كان هؤلاء اغتصبوه عنوة فيها، فراحوا يخاطبون مشاهديهم بلغة احترام الذات للذات... بلغة الفن التي هي لغة حب، وبالمعرفة التي هي وسيلة تواصل بين العقول؟ يبدو أن بعض"الفضائيات العربية"أجاب عن السؤال قبل طرحه هنا، فأزاح"السياسيين المحترفين"، أو بعضاً منهم، عن البرامج الأساسية بعد أن اكتشفت المحطات، أو كشف لها، أنهم، وعلى مدى أعوام من الاحاديث الموجهة الى الناس، لم يورثوا المجتمع وناسه سوى البلبلة، واللغة الهابطة القائمة على إثارة النعرات وتأجيج نار العصبيات، وتفكيك الواقع الاجتماعي وتحويله الى"شرذمات فئوية". حين أحلت هذه"الفضائيات"محل هؤلاء"السياسيين"أصحاب الكلمة الشريفة، والصورة الانسانية، واللحن والصوت المجاهر بالحب، اكتشفت الفارق الجوهري بين"هذا"و"ذاك"من خلال ما تحدثوا فيه، أو واجهوا به الجمهور المشاهد من هموم هي هموم الناس في المجتمع العربي اليوم: التطلع الى حياة يسودها الحب والجمال، وتعمرها المحبة والوئام. من هذه التوجهات برنامج"حوار مفتوح"من قناة"الجزيرة"بالذات، والتي كانت دائماً من بين القنوات التي فتحت ابوابها لنوع السياسيين الذين نتحدث عنهم، لكنها أحياناً، تنحو، ولو في شكل خجول في الاتجاه الجديد... بداية مع الفنانة ماجدة الرومي التي تحدثت بلغة الوعي الانساني والثقافي - الحضاري، مخاطبة مشاهديها بما يعبر عن أمرين أساسين: احترامها عقل من تخاطب... وارتفاع مستوى لغة خطابها الى درجة رفيعة من حب الآخرين. ويبدو أن مقدم البرنامج غسان بن جدّو اكتشف، بدءاً من هذه الحلقة، أن لدى الفنانين والادباء كنزاً من لغة الإبداع الرفيع، فعمد الى تكرار التجربة مع فنانين آخرين، معيداً بهم، ومن خلالهم لغةً كاد المجتمع ينساها، فقدم فنانين آخرين مكتشفاً في لغتهم ما يؤكد مسارهم الانساني الرفيع. وهو عاد، مرة أخرى، ليعمق المسار ذاته من خلال الشاعر أحمد فؤاد نجم، فكان أن كسر، اولاً،"تقاليد"مثل هذا اللقاء بأن استبدل الاستوديو الأنيق والمجهز بالمستلزمات الأساسية، من إضاءة، وديكور، وفضاء لحركة الكاميرا، وضبط الصوت ب"ناصية شارع"في حي شعبي من أحياء القاهرة، مصوراً وسط حركة الناس الذين يتوجه إليهم الشاعر - الضيف بخطابه الشعري. وإذا كان الشاعر بدا متعباً بفعل حال المرض التي خرج منها للتو... فإنّ"لغته"ظلت على عهدها - أو ما عهدنا بها: لغة نقد للظواهر السلبية في حياة الشارع العربي، وفي سلوك نمط من المثقفين، او في السلوك الثقافي والسياسي العربي الحالي، مؤشراً الى ما كان، ولا يزال، يعدّه"ثوابت قومية"من شأنها - كما يرى - النهوض بالواقع العربي والانسان العربي من جديد. ولعل المهم في خطابه هذا أنه لم يكن يائساً، على رغم الحالات السيئة التي تحدث عنها، ولا متشائماً بالمستقبل. هذا المسار انعطف فيه برنامج آخر من برامج"الجزيرة"هو:"بلا حدود". فبعدما قدم"حلقة استثنائية"مع المسرحي المغربي احمد السنوسي، قدم الفيلسوف والمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه الذي أعاد الى الذاكرة - بعمق تحليله، ونظراته البعيدة، ولغته الرفيعة - الكثير مما كنا افتقدناه من زمان ثقافي وفكري قد يكون بعيداً، بعض الشيء في الزمان، ليس في"الفضائيات"وحدها - وإن كان طمسه حصل بفعلها - بل في وسائل إعلامية و"ثقافية"أخرى كانت دخلت"مستنقع السياسة"من دون تحفظ... فأعاد، بظهوره هذا، الى الكلام"معناه"، والى اللغة شفافيتها وبعدها الثقافي، مذكراً بما ينبغي أن يكون عليه المتكلم إذا تكلم: الانسان الذي يجعل من الكلام صنواً لإنسانية رفيعة. فهل للمشاهد العربي أن يدعو اليوم القنوات الفضائية الناطقة بلغته كونها الأوسع انتشاراً إعلامياً الى أن تهمل"السياسيين المحترفين"والعابثين بمصائر شعوبهم، وتتوجه الى اصحاب الفن النظيف... فتكون ساعدت في إعادة بناء روح الانسان العربي وعقله على أسس المحبة والجمال الانساني الرفيع.