خلال الحرب الكونية الأولى واجه العالم أزمة غذاء وكساد طاحنة خرجت من رحم تلك الحرب، وما كاد المجتمع الدولي يلتقط أنفاسه حتى شهد الاقتصاد العالمي عام 1929 أزمة كساد امتدت حتى بدأت شرارة الحرب العالمية الثانية، لتستمر معها الأزمة بل تشتد. ولم تنته إلا بانتهاء تلك الحرب المدمرة التي جاء مشروع مارشال ليصلح بعض ما أفسدته لكن بالطبع في أوروبا. كان العالم العربي أثناء الحربين الأولى والثانية يقبع تحت نير الاستعمار والانتداب، ويعاني تفرقاً وتمزقاً وتشرداً، وكان يعيش عيشة ضنك ومعاناة من الفقر والجوع والعوز والمرض يصعب وصفها، حتى ان مواطنيه من الخليج الى المحيط في تلك الفترة من التاريخ عاشوا حياة بدائية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فبعض مواد الغذاء مثلاً كالرز اعتبر في ذلك الزمان دواء شافياً، وكان المستعمر أو المنتدب المغتصب لأرضهم يقف بالمرصاد لانتقال السلع الغذائية بين بلد عربي وآخر! وعلى مدى السنتين الماضيتين بدأت وتيرة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية التي هي غذاء الفقراء ومتوسطي الدخل تأخذ مسيرتها ارتفاعاً بنسب متسارعة لم يشهدها العالم خلال قرن الأحداث الكبرى المنصرم، على رغم الكوارث التي حلت بالبشرية في ذلك القرن. هذه القفزات القياسية في الأسعار امتدت بالطبع الى بلاد العرب، وكان وما زال وقعها أشد أثراً على العرب الذين للأسف من بين عدد سكانهم البالغ 300 مليون نسمة هناك أكثر من 76 مليون فقير. يستورد العالم العربي أكثر من 90 في المئة من حاجاته من الأغذية والمواد الأساسية من الخارج، على رغم غناه بمصادر المياه السطحية فعشرات الأنهار تخترق أراضيه ومنها نهر النيل أطول نهر في العالم ونهرا دجلة والفرات وغيرها كثير، كما يمتلك العالم العربي مخزوناً ضخماً من المياه الجوفية وتسقط على أراضيه كميات وافرة من الأمطار كما يمتلك العالم العربي ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية العالية الخصوبة. لكن هذا الوطن العربي الذي بإمكانه أن يكون سلة غذاء متكاملة آلى على نفسه ركوب صهوة الكسل والركون إلى الراحة والاستيراد حتى ان ما يستورده من الطماطم وحدها سنوياً تتجاوز كلفته 300 مليون دولار! والنتيجة الحتمية لاعتماد العرب العاربة والمستعربة على استيراد السلع حتى غذاء بطونهم جعل عدوى التضخم الجامح التي اجتاحت النظام الرأسمالي الذي تعلقنا بأهدابه تنتقل بسرعة الريح إلينا، فبلغ التضخم مثلاً في دول مجلس التعاون الغنية بالنفط 7 الى 10 في المئة، وفي دول عربية أخرى اقل ثروة تجاوز التضخم هذه النسبة بكثير! ان لهذا التضخم أسباباً عدة ولكن الغرب يلقي باللائمة على أسعار النفط المرتفعة، وهذا وان كان له أثر سلبي، إلا ان ما يقوله الغرب حق يراد به باطل، خصوصاً إذا عرفنا أن نسبة مساهمة النفط في حجم التجارة العالمية لا تتجاوز 7 أو 8 في المئة، ثم إن أسعار النفط وان بلغت مئة دولار للبرميل، إلا ان قيمته الحقيقية لم تزد، إذا عرفنا أن انهيار الدولار أمام العملات الأخرى يجعل من سعر برميل النفط في حقيقة الأمر عندما يبلغ مئة دولار لا يزيد على 39 أو 40 دولاراً وهو سعره في أواخر السبعينات وخلال الثمانينات من القرن المنصرم عندما كان الدولار في أوج قوته! إذاً النفط بريء من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف، وتبقى الأسباب الرئيسة التي دفعت بالتضخم إلى أعلى، وفي مقدمها التدهور المستمر في سعر صرف الدولار، الذي يسعّر به النفط وزيادة السيولة من الدولارات، فزاد الفائض من هذه العملة الرديئة التي غرق العالم في بحرها، فالصين وحدها لديها فائض يبلغ نحو 1.4 تريليون من العملة الأميركية. إذاً العالم يواجه تضخماً أدى إلى ارتفاع أسعار السلع بكل أنواعها مع تآكل قيمة النقود وانخفاض قوتها الشرائية في خضم زيادة مستمرة في الطلب على جميع السلع مصحوباً بتدن مستمر في إنتاجها، خصوصاً من المواد الغذائية التي يحتاجها فقراء العالم، الذين أصبحوا بين فكي تضخم غير مسبوق لا يرحم نقود كثيرة تطارد سلعاً قليلة! على الجانب الآخر، نجد أن الدول العربية أسهمت في مسيرة عجلة التضخم، فكان الأولى بالجهات المسؤولة عن السياسة النقدية والاقتصادية والتجارية فور شم رائحة التضخم الإسراع الى درس الحالة وتشخيصها ووضع الحلول لها وعلى الأخص خلال العامين الماضيين لمواجهة زيادة الأسعار في السلع، خصوصاً المستوردة منها وهي الغالب، وأمام تأخر هذه الجهات في وضع الحلول فإنها لم تكن ذات فعالية وزاد الأمر سوءاً استمرار تدهور سعر الدولار الأميركي، وتقاعس تلك الجهات عن إعادة تقويم قيم عملاتها، او ربطها بسلة عملات. بل ان السياسات النقدية للدول العربية التي ترتبط عملاتها بالدولار، لم تتدخل أمام تدهور العملة الأميركية برفع الفائدة على عملاتها، بل إنه كلما خفض البنك الاحتياطي الأميركي الفائدة، سارعت هذه الدول إلى خفض الفائدة على عملاتها، وهذا زاد الطين بلة. وإذا بقيت العملات مرتبطة بالدولار بهذا الزواج الكاثوليكي الذي لا انفصام له، فإن النتيجة ستكون كارثية، ولا يبدو ان الدول العربية تتحرك تحركاً جاداً في هذا الاتجاه وما يجري هو مجرد حلول وقتية وضعيفة الجدوى. لقد أصاب إماما الحرمين الشريفين في خطبتيهما لصلاة الجمعة في 22 شباط فبراير الماضي كبد الحقيقة، عندما خصصا الخطبتين لارتفاع الأسعار، محذرين من الجشع والشح، وناهيين عن الاحتكار واستغلال ظروف الناس. فإمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط قال:"ان من أسوأ الوسائل وأخبثها وأشدها ضرراً الاحتكار بقصد رفع الأسعار، لا سيما في أقوات الناس الضرورية التي لا يستغني عنها احد"، وأوضح الشيخ ان"مثل احتكار الطعام احتكار المرافق، بالإصرار على رفع أجور المنازل والمعارض التي عليها مدار معيشة كثير من الناس". والسؤال من الذي يدفع هذه الفاتورة، فاتورة التضخم وزيادة الأسعار الجنونية؟ والجواب انه المواطن العربي، خصوصاً الطبقة المتوسطة التي بدأت تتآكل في بعض الدول، بل إنها انتهت تماماً في بعضها بعد الضربات القاسية التي تلقاها كثير من أفراد هذه الطبقة إن لم نقل معظمهم في أسواق الأسهم، فأصبحوا غير قادرين على تحمل هذه الأعباء بعد هذا الارتفاع المحموم في أسعار السلع الأساسية والمواد الغذائية. وإذا كانت هذه حال الطبقة المتوسطة التي تعتبر عماد المجتمع، فكيف نتوقع ان تكون حال الفقراء الذين لا يتجاوز دخل الواحد منهم في بعض الدول مثل فلسطين الجريحة دولاراً ونصف دولار في اليوم؟ إنها أسوأ حال، يطحنهم الجوع وتذلهم الحاجة وتملأهم الحسرة، فهم لا يملكون من المال ما يسد رمقهم، ولا يلمحون أملاً قريباً يصبرهم ويشد من أزرهم! وهكذا يبدو الوضع مأسوياً شديد القتامة، ارتفاع أسعار وبطالة وصلت في بعض الدول الى نسب تصل إلى ما بين 45 و60 في المئة وفقر مدقع، وازدياد في أعداد الفقراء وتدن في دخولهم، وفي الوقت نفسه زيادة في أعداد الأغنياء وفي دخولهم، فالفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى، والاحتكارات تعددت وانفلت ضابط الأمن الغذائي، ولم تقدم جهات السياسات النقدية والاقتصادية والتجارية والرقابية، وصفات مقنعة تكبح جماح الأسعار التي تقفز قفزات يومية سريعة، كأنها قفزات الغزلان المذعورة. ان الاحتكار موجود للأسف شئنا أم أبينا، خصوصاً في بعض السلع التي تتصاعد أسعارها بشكل يومي من دون أي مبرر، وسط عجز السياسات المالية والاقتصادية والتجارية عن سن قوانين واتخاذ إجراءات مدروسة حاسمة، تأخذ على يد المحتكرين وتنزل بهم أشد العقاب! ان هذا الغلاء الفاحش الذي اكتوى المستهلكون بنيرانه يؤدي لا محالة إلى تضاؤل الطبقة الوسطى وتخلخل وضعها الاجتماعي، وهي التي تعتبر ركيزة كل المجتمعات، كما يعني أيضاً ان الفقراء ستزيد أعدادهم، وهذا يترك أثره في المجتمعات وأمنها واستقرارها، وسط غياب دور الجهات المسؤولة عن حمايتهم كمستهلكين من حقهم ان يجدوا الحماية، إلا إذا كانت الوزارات والهيئات المسؤولة غير قادرة على حماية هؤلاء لأسباب مجهولة! وهذه الطبقة المهمة من المجتمعات لا تطلب مستحيلاً فهي لا تنشد إلا الأمن الغذائي وتوفير الدواء في سعره المناسب، كما أنها تحلم بتوافر الخدمات من ماء وكهرباء، فكل صاحب دخل محدود أو عاطل عن العمل او فقير يواجه واقعاً مريراً ويطمح إلى حلول إسعافية تخرجه من هذه الحال الحرجة، ثم حلول طويلة الأجل تضمن عدم العودة الى هذا الوضع المزري، الذي يمس الإنسان ليس في طعامه وملبسه ومسكنه فحسب، بل في عزته وكرامته وإنسانيته. ويبقى القول انه من سوء حظ الطبقات المتوسطة والفقيرة أنها واجهت على مدى العامين الماضيين موجة غلاء جامحة جلبها التضخم أكلت الأخضر واليابس، وأصبحت في وضع لا تحسد عليه بين مطرقة الغلاء وسندان التضخم، فأثقل ذلك كاهلها بما لا تستطيع حمله من أعباء! إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ علي الحذيفي بيّن أن التجارة تتضمن مصالح ومنافع الناس، وقد اوجب الله سبحانه وتعالى مراعاة مصالح الناس في المعاملات الخاصة منها والعامة ان إدخال التاجر المشقة على المسلمين يعرضه لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم التي قال فيها:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم اللهم فاشقق عليه" وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم الى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال يا معشر التجار فاستجابوا ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال:"ان التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق". ولعل وزارات المال والاقتصاد والبنوك المركزية راعية السياسات النقدية تعيد النظر في تقويم عملاتها خصوصاً تلك الدول التي تعتبر عملاتها قوية مدعومة بالنفط الذي تنتجه ويسعّر بالدولار كدول مجلس التعاون وبعض الدول العربية المرتبطة عملتها بالدولار المريض، فرفع قيمة عملات هذه الدول أو فك ارتباطها بالدولار الى سلة عملات سيكون له اثر فعال في الحد من التضخم. كما ان تطبيق الرقابات الصارمة على الشركات والمؤسسات والتجار لمراقبة أسعار السلع وعدم المغالاة في رفعها له أثر أيضاً بدلاً من ترك الحبل على الغارب لضعاف النفوس يرفعون أسعار المواد الأساسية وحتى الأدوية الطبية بلا واعز من ضمير، ما يزيد من عدد البطون الجائعة وعدد الفقراء. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية