كنتُ أقرأ مع طلاّبي في الجامعة اللبنانية فصلاً في كتاب "منطق الطير" لفريد الدين العطّار وقد كتبه العطّار بالفارسية قبل ثمانمئة سنة وصدرت له ترجمتان عربيتان إحداهما عراقية والأخرى مصرية، عندما أُعلن عن جوائز مؤسسة الشيخ زايد للكتاب في أبو ظبي في دولة الإمارات العربية، وحصلت على الجائزة في فرع أدب الطفل، السيدة هدى الشوا القدومي عن كتابها:"رحلة الطيور الى جبل قاف"، وهو مقتبس من"منطق الطير"للعطار، ومكتوبٌ للأطفال بعربية جميلة وواضحة، وحافل بالرسوم الرائعة والموحية. وقد قرأت من قبل نصوصاً عدة للأطفال مقتبسة من قصص تُراثية عربية وأجنبية مثل"كليلة ودمنة"وپ"روبنسون كروزو"وپ"حي بن يقظان"وپ"رسالة الغفران"وپ"روبن هود"... الخ، لكنني ما قرأت من قبل بالعربية اقتباساً بهذه الروعة في الصوغ والإيصال، وبخاصة أن هذه الحكاية الرمزية ذات البُعد الروحي والصوفي، تتضمن رؤية عميقة ليس من السهل إعادة صوغها للأطفال. لا تعرف المصادر التاريخية وكتب التراجم شيئاً كثيراً عن فريد الدين محمد بن إبراهيم العطار، ولولا علاقته بجلال الدين الرومي، لما عرفنا أنه عاش في القرن السادس الهجري. ويقال إن العطار كان صيدلانياً وطبيباً، في نيسابور. وكان في الوقت نفسه مهتماً بالحياة الروحية والأخلاقية. وقد اعتاد على كتابة رسائله الواعظة في صورة حكايات على ألسنة الحيوانات والطيور، بحيث يبدو ظاهرها للتشويق والتسلية، ويستطيع ذوو التعمق أن يقرأوها قراءة ثانية أو باطنة. أما"منطق الطير"فأصلها رسالة الطير لأحمد بن محمد الغزالي، شقيق الإمام الغزالي، والذي كتب قصصاً في الحب الصوفي، وفي المعرفة، وفي الانجذاب. وفكرتها أن المرء قد يسعى ويطوّف في الآفاق بحثاً عن السعادة والطمأنينة، ثم ينتهي بأن يجد ذلك كلّه كامناً في نفسه وذاته. فالطيور التي مات"ملكُها"أرادت المضي الى السيمرُغ = العنقاء؟ وراء جبل قاف لتملّكه عليها. ومنذ البدء انقسموا الى أقسام عدة: أراد قسم العيش من دون ملك. وأراد قسم آخر ملكاً جديداً، لكنه ما كان مستعداً للمضي في الرحلة الطويلة الشاقة. وأراد قسم ثالث التماس ملك قريب. وحار قسم رابع ماذا يفعل. وفي النهاية استطاع الهدهد أن يجمع مئات من الطيور اعتزمت تجربة المشقة لامتلاك المُراد بحسب ما قال العطار في هذه الملحمة الشعرية الجميلة. وقد كان على تلك الطيور أن تعبر سبعة أودية هي عبارة مجازية عن منازل سعي المُريدين أو السائرين - قارن بمنازل السائرين لشيخ الإسلام الهَرَوي لبلوغ جبل قاف، فهلك أكثرها وما بقي غير زهاء ثلاثين طيراً، كان لها شرف وثواب وجزاء الرؤية والشعور بإثلاج الصدر والسعادة. وقد أدركت ومن دون أن يقول لها السيمرُغ الذي امتلأت وعياً به، ان ما كانت تبحث عنه إنما هو كامن في صدورها وأخلادها وأرواحها، وهو محتاج الى إفراد الله بالقصد مهما بلغت المشقة، أوَلم يقل أبو حامد الغزالي إن الوصول إنما يكون بعين الجود أو ببذل المجهود؟ وقد اختار العطار خيار المجاهدة والبلوى، وبلغ السعادة كما تيقَّن. قصة فريد الدين العطار هذا مثل سائر قصصه حافلة بالرموز، والتي يمكن تأويلها بكيفيات مختلفة بحسب ثقافة القراء أو أفكارهم المسبقة أو الحال التي يكونون عليه. وكلها في الأصل تدور داخل النفس، وتتخذ إحدى صيغتين: صيغة المعراج العروج الى أعلى عليين أو الرحلة الى هدف ناء أو مستحيل، وكلتا الصيغتين سَفَر، لكن الصوفي يملك أن يتحرر أكثر أو يغوص في الرمز عندما ينأى بنفسه عن صيغة المعراج لئلا يكون هناك اشتباه بإسراء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعراجه. وعلى أي حال، فإن جبل قاف من ق القرآنية، أو من قافٍ، أي غير مرئي عصيٌّ على البلوغ استعصاءه على الرؤية على رغم أنه"جبل"، وكذلك الأمر مع السيمرُغ الذي كانت صورته في خيال كُتّاب الرحلات وعجائب المخلوقات انه طير هائل الحجم وعظيم الخِلقة، ويفترس الفيَلَة في سرعة البرق !، لكنه من ناحية أخرى هو ثاني المستحيلات لدى العرب القُدامى وهي الغول والعنقاء والخِلُّ الوفي. وقد بدأت المسألة لدى المتصوفة المسلمين برسالة"التوهم"للحارث بن أسد المحاسبي - 243 ه، وهي رحلة متوهَّمة الى الجنة والنار، ثم كانت رسائل الشعر والنثر في صيغة المعراج أو صيغة السَفَر الى هدف متوهَّم، لتنتهيا دائماً بالعودة الى الذات أو اكتشاف الذات والنجاة بهذا الاكتشاف. فالمعراج أو الرحلة هما الرمز الى السعي وبذل المجهود وجمع الهمّ في الوقت نفسه، وبالوصول الى الغاية تحقق القرب أو المعرفة أو السعادة يكون الجزاء أو تنتهي المشكلة من حيث بدأت. من أين أتى هذا القَصَص، ومن أين أتت فكرة التطويف في الآفاق للوصول أخيراً الى أن الذات أو النفس هي الداء والدواء في الوقت نفسه؟! الأمران مختلفان تماماً. فالتمثيل القَصصي ذو الأهداف التربوية أو التعليمية شيء، والبدء من الذات والانتهاء إليها شيء آخر."كليلة ودمنة"ذات أصول هندية، وقد تُرجمت في القرن الخامس الى الفهلوية الفارسية الوسيطة، ومنها الى العربية على يد ابن المقفع. ويُدخِلها بعض الدارسين في الجنس الأدبي المسمى مرايا الأمراء أو الآداب السلطانية. وهي ذات طبيعة أخلاقية، لكن أخلاقياتها عملية، وليست ذات منحى مثالي أو مطلَق. وفيها فكرة واحدة تُشبه أدب النفس الروحي أو الصوفي هي التفرقة بين الظاهر والباطن، أو أن الظاهر غالباً ما يكون عكس الباطن. أما الانتهاء الى النفس أو الذات فيبدو ذا أصول مانوية أو بوذية. ونعرف من"الفهرست"لابن النديم، انه كانت هناك سِيَر لماني -274م مترجمة الى العربية، ومنها كتابٌ شعري مقدَّس مُوحى إليه، وهي تدور جميعاً حول مكافحة الروح/ النفس لمادية الجسد الذميمة والشريرة، توصلاً الى الخلاص من"الامتزاج"الذي دنّست من خلاله المادة الروح. ويجري التمثيل للأمر بقَصصٍ كثيرٍ فيه الكثير من الخيال المجاز. بيد أن النموذج الذي نملكه ونستطيع المقارنة من خلاله آت من التراث البوذي. لدينا ترجمة عربية لقصة اكتشاف بوذا لجوهره المتسامي، من طريق السير في دروب رياضة النفس، والرحلة الحقيقية والمجازية، تحت اسم"بَلَوْهَر وبوداسف". ولدينا قصة بوذية تسللت الى قصص"كليلة ودمنة"كل حكايات"كليلة ودمنة"الأخرى هندوسية الروح هي قصة إيلاذ وبلاذ وإيراخت. وفي السيرة البوذية والقصة الواردة في"كليلة ودمنة"تظهر بوضوح فلسفة"الخلاص الذاتي"، والتي تتم دائماً عبر طُرُق طويلة ومتعرجة، لأن أهواء النفس وشرورها تحول دون الاتجاه المباشر. ونحن نعرف أن المانوية عُرفت تحت اسم الزندقة كوفحت طويلاً من جانب الدولة والمفكرين في العصر العباسي الأول، بينما كانت أفكارهم عن البوذية مشوَّشة، وظلوا طويلاً لا يعرفون منها غير تماثيل بوذا الضخمة، التي رأوا مئات منها في سهوب آسيا الشاسعة، ولذلك فقد خلطوا طويلاً بينها وبين الزرادشتية المجوسية وعبادة النيران، الى أن عرض البيروني في القرن الخامس الهجري بعض معالمها. لكن الطريف أمران: معرفة الإمام أحمد بن حنبل - 241ه في كتابه: الرد على الجهمية أن السُمَنية الشامانية، رُهبان البوذيين ونُسّاكهم لا يقولون بوجود الله، ولا يؤمنون إلا بما يُدرَك بالحواسّ ? ومعرفة مؤرّخي العقائد المسلمين منذ القرن الثالث أن هؤلاء النُساك السُمنيين إنما يمارسون في تجوالهم في السهوب في خطوط منتظمة رياضات بدنية ونفسية. ولذلك فإن بعضاً منهم نسبوا الزاهد المبكّر إبراهيم بن أدهم ابن أحد أمراء بَلْخ التي ظلت حتى القرن التاسع الميلادي مدينة بوذية الى التأثُّر بالسُمَنية عندما ترك"مُلك"والده وخرج مهاجراً الى فارس والشام، يعمل حارساً في البساتين. لا تتلاءم فكرة"الخلاص الذاتي"في صورتها الأصلية مع العقائد الإسلامية. ولذلك فقد تحوّلت لدى أوساط الزهاد والصوفية الى رياضة النفس وأدب النفس، واتخذت لدى الصغار منهم صيغة الزهد والتخلُّق بأخلاق الفقراء، والخروج من البيئات التي اعتادتها النفوس، لكي تصفو وترقّ، ويزول عنها الهوى، وتتجه الى الرحمن الرحيم. وما كان المحاسبي من الصغار أو الأوساط. قد أدرك الفرق بين"العقل عن الله"كما قال، والخلاص الذاتي. ومع ذلك فقد اعتبر معاصره أحمد بن حنبل أن أحوال المحاسبي وتغيراته الداخلية إنما هي"وساوس وخطرات". وكان المحاسبي قد رفض وراثة ما تركه له أبوه، وغادر منزل الأسرة الى مأوى آخر. وغرائب الزُهد الخراساني وتطلُّب المعرفة ? كما يقول الدارس المعروف للتصوف فرتز ماير - لا يمكن فهمها إلا على خلفية التأثر ببوذية الشامانيين، وقولهم بالخلاص الذاتي وبلوغ النرفانا من طريق التحولين الداخلي والخارجي. بدأنا مع السيدة هدى الشوا وعملها على صياغة"منطق الطير"للعطار للأطفال العرب، وهي صياغة بالغة التأثير والروعة بحيث استحقت جائزة الشيخ زايد للكتاب - فرع أدب الطفل، للعام 2007. بيد أن طيور العطار التي كانت تبحث عن مَلِك، تبين لها أنها إنما كانت تبحث عن المعرفة المحرِّرة، والخلاص الذاتي. والفكرة بحد ذاتها لها مستويان: المستوى الإسلامي المتعارَف عليه لرياضة النفس وأدبها وهو مستوى أخلاقي طيب، والمستوى الفلسفي الذي يغوص في الروح العميق المتسامي والمتألّه للشرق القديم، وهو الروح الذي يُطِلُّ على فكرة أو اعتقاد"الخلاص الذاتي"، ويفتح على عوالم أخرى، ومشكلاتٍ مختلفة. وهكذا فالأمر في النهاية كما قال حافظ الشيرازي: بدأ الحب جميلاً وبريئاً، ثم ظهرت المشاكل!