"لقد نثرت الورد في هذا البستان، فتذكروني بالخير ايها الاصدقاء، ولكل انسان ما يوافقه في هذا الكتاب وقد تجلى لحظة وولى مسرعاً، ولا جرم انني كالسالكين، جلوت طائر الروح على النائمين. وان كنت قد قضيت عمراً مديداً في سبات، فلعل قلبك يتنبه الى الاسرار بهذا الكلام ذات لحظة، وأعلم بلا ريب ان عملي سيحرز التوفيق، ويتلاشى غمي وتتبدد احزاني ... وما اكثر ما احرقت نفسي كمصباح، حتى اضأت الدنيا وكأنني شمع، وأصبحت رأسي كالمشكاة من الدخان، فإلام يشعل شمع خلدي المصباح؟ لقد ولى نهار طعامي، وانقض ليل نومي، ونضب ماء كبدي من نار قلبي، وقلت لقلبي: ايها الثرثار، لقد تكلمت كثيراً، فصه وابحث عن الاسرار! فقال: انني غريق ناري، فلا تلمني. ان اكف عن الكلام، احترق، لقد ماجت مئات الاضطرابات في بحر روحي، فكيف اكف عن الكلام ساعة؟". بهذه العبارات الشاكية وشديدة الذاتية يختتم فريد الدين العطار "منطق الطير" بحسب ترجمة د. بديع محمد جمعة عن الفارسية، وهو واحد من اشهر كتب التصوف، وأكثرها اقتراباً من الأدب. ينضوي "منطق الطير" ضمن تقاليد الأدب الرمزي التي تمتد من مسرحية "العصافير" لأريستوفان، حتى زمن العطار القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وتصل الى ذروتها في اعمال يرى كثيرون ان العطار تأثر بها في شكل مباشر مثل "رسالة الطير" للغزالي، و"رسالة الطير" لابن سينا و"قنوية سنائي" و"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. ولكن من الواضح ان فريد الدين العطار، بعد ان استوعب تلك الاعمال كلها، وضع عملاً ذاتياً شخصياً يعبر، في الجوهر، عن فكرة الصوفي الحلولي، ويتميز بأسلوب شيق وعميق لا يميز اياً من الاعمال الاخرى. علماً انه في وقت تبدو فيه تلك الاعمال فلسفية المسعى، يبدو عمل العطار روحياً - صوفياً بحتاً. "منطق الطير" هو في نهاية الامر، حكاية رحلة وبحث، كما يليق بالأعمال الصوفية الكبيرة ان تكون. ولسوف نرى بعد قليل ان البحث انما كان بحثاً عن الذات، او بالأحرى عثوراً على الذات بعد رحلة البحث الشاقة. ومن يقوم بالرحلة هنا هو الطيور، على عكس ما يحدث في بقية الاعمال المشابهة، حيث يكون السعي في معظم الاحيان، سعياً بشرياً للبحث عن الحقيقة. لدينا في "منطق الطير" مجموعة تمثل كل الطيور التي كانت البشرية تعرفها حتى زمن فريد الدين العطار. وهذه الطيور تجتمع ذات يوم وتقرر البحث عن ذلك الطائر الذي يمكنها ان تجعل منه ملكاً عليها. والطائر المنشود هو ذلك الطائر الخرافي الذي يحفل الأدب الفارسي بوجوده منذ بدايات وجود ذلك الأدب: السيمرغ... وهو يعادل العنقاء في الاساطير العربية، وطائر الفينيق في الاساطير القديمة. وتقرر الطيور القيام بالرحلة التي توصلهم الى السيمرغ، وهم يختارون كدليل في رحلتهم طائر الهدهد، "الذي كان هو من قاد سليمان الحكيم الى ملكة سبأ، والذي انطقه الله تعالى اذ قال لسليمان: اطعت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين". غير ان الهدهد ليس الطائر الوحيد الذي يتكلم في "منطق الطير"، لأن الطيور كلها تتكلم ومن هنا عنوان الكتاب، وان كان ثمة من يترجمه ب"اجتماع" الطير، من نطاق، لا من منطق. اذاً، يقود الهدهد الطيور في رحلتها... ولكن امام وعثاء السفر وصعوباته واليأس الذي يداخل الكثيرين اذ تطول الرحلة، يتراجع الكثير من الطيور بأعذار مختلفة، بحيث لا يبقى في نهاية الأمر سوى ثلاثين طائراً، يقررون على الدوام مواصلة رحلة البحث. وهؤلاء، رمزياً، هم الصوفيون بالطبع، هؤلاء الثلاثون ويعادل نعتهم بالفارسية كلمة "سي مرغ"، ما له دلالة واضحة، يواصلون الرحلة، اذاً، تابعين الهدهد، قاطعين الفيافي والتضاريس، ولا سيما الوديان السبعة، التي ترمز هنا الى مراتب الوصول الصوفي السبع: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التوحيد، وادي الحيرة، وأخيراً وادي الفقر والغناء، الذي هو اصعب الوديان وآخرها، فإذا ما تمكنت الطير من اجتيازه وصلت الى مبتغاها. وبالفعل تتمكن الطيور من الوصول، في المقالة الخامسة والاربعين من الكتاب، الى السيمرغ وتجد نفسها في حضرته: "سي مرغ" ثلاثون طيراً تواجه ال"سيمرغ" الطائر الخرافي المطلوب منه ان يكون ملك الطير. ويتحول المشهد هنا الى لعبة مرايا، اذ يكتشف الطيور الواصلون الى مواجهة عرش السيمرغ، انه انما هو انعكاس لذاتها، وان ثمة توحد تام بينه وبينها... والرمز واضح هنا: انه الحلول الذي يهيمن على الفكر الصوفي. يتألف "منطق الطير" من عدد يتراوح، بحسب النسخ المتوافرة، بين 3800 و4600 بيت، كتبت، بالفارسية، بأسلوب المثنوي اي القافية نفسها لكل بيتين وهو اسلوب لم يكن معروفاً لدى العرب، ادخله الشعراء من اصل فارسي الى الشعر العربي لاحقاً. ولقد قسم فريد الدين العطار كتابه الى 45 مقالة، وألحق به الكثير من الحكايات او ألحقت به حكايات في زمن لاحق على رحيل العطار... وهي حكايات يرى د. جمعة انها "سيقت لتوضح افكار القصة الرئيسية، وتختلف طولاً وقصراً بحسب موضوعها. وأقصر قصة فيها تتألف من بيتين. ولد فريد الدين العطار واسمه محمد وكنيته ابو حامد، اما فريد الدين فهو لقبه. وكانت ولادته في نيسابور اما تاريخ ولادته فالمرجح بحسب جمعة انه العام 513 ه. 1142م. تقريباً. ولقد عرف فريد الدين بالعطار لأنه كان يعمل في العطارة وهي مهنة ابيه من قبله. وهناك حكايات كثيرة، أكثرها ذو طابع اسطوري، تروى عن تحول العطار من تجارة العطور الى التصوف. المهم انه تصوف ذات يوم واعتزل في صومعة وراح يتلقى الدروس على عدد من المشايخ... غير ان من المؤكد ان العطار قد تأثر الى حد كبير بحجة الاسلام ابي حامد الغزالي، ما يجعل من المفترض انه كان شافعياً من ناحية المذهب. وفي الوقت نفسه معروف ان فريد الدين درس الطب والصيدلة وعلم الكلام، كما قرأ سِيَر الشيوخ الذين سبقوه. وهو، متابعاً الغزالي، كان كثير الحذر تجاه الفلسفة والفلاسفة، الى درجة يرى معها البعض ان "منطق الطير" انما هو كتاب يمكن اعتباره أُلّف من اجل دحض الفلسفة، وفي تعارض مع "رسالة الطير" لابن سينا. اما وفاة فريد الدين العطار فقد اختلف الباحثون في تاريخها، وان كان ثمة رأي يرى انه توفي في مكةالمكرمة، والمرجح انه توفي في العام 627ه. وان كانت حكاية حياته تشير الى محاولة لقتله جرت في العام 618ه. قال كثيرون انه نجا منها، وقال البعض انه قضى فيها. وكما ان هناك خلافاً حول تواريخ حياة العطار وموته، وحول مكان موته، هناك ايضاً خلافات حول كتبه وتلك المنسوبة اليه، اذ يقول البعض ان عددها 30 بينما يقول البعض الآخر انها تفوق الستين وغير ذلك. ومهما يكن من الأمر، من المؤكد ان "منطق الطير" هو اشهر كتبه، الى جانب "تذكرة الأولياء" و"مصيبت نامه" و"أسرار نامه"...