هناك إذاً حياة خارج استبداد العسكر وإرهاب المتطرفين انتخابات باكستان. هناك إذاً مآل وأفق غير دمار العنف الأهلي المتمادي بلا قرار والوقوع بين براثن دولة كاسرة استقلال كوسوفو. هناك إذاً حيز ثالث، يعيد اختراع الطوبى، بين يسار نظيرٍ مطابق لليمين أو يكاد، ويمين نظير مطابق لليسار أو يكاد حملة الانتخابات التمهيدية الأميركية وبروز ظاهرة أوباما... لسنا ضرورةً على أبواب انعتاق، يعيد إلى السياسة بعض ألق لم يكن، على أية حال، سمتها الفارقة إلا نادرا ولماما ويربأ بها عن أن تكون محض تسيير أو مسايرة لحالة قائمة، لجمود ليس مشرعا، تغييرا، إلا على احتمالات الكارثة، ولكن أمارات بدأت تلوح، جاءت بها الوقائع الثلاث الآنفة الذكر وأخرٌ بدأت تتبدى هنا وهناك، توحي بأن حراكا ما بدأ يدبّ في هذا العالم. صحيح أن المستجدات المذكورة قد يشوبها ألف استدراك وقد يعكرها ألف تحفظ، ولكن مزيّتها أنها تقدم الدليل على أن التاريخ أو الاجتماع البشري، محليا كان أم معولما، ليسا عديميْ الخيال بالقدر الذي خُيّل لنا في السنوات الماضية، والتي تمادت حتى بدت لنا أبدا، منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر أو منذ خروج البوشية إلى العالم أو وفق أي تحقيب آخر نرتئيه. صحيح أنه كان يمكن لانتخابات باكستان أن تكون صريحة النتائج أكثر، تمعن في إضعاف الجنرال مشرف حتى إخراجه، تمدّ معارضيه بأغلبية ناجزة ترسي تحوّلا، ولكن الناخب الباكستاني اجتهد في حدود المتاح، فكسر حتمية كان يبدو أن لا فكاك منها، قوامها الاختيار بين استبداد العسكر وتمكين التطرف والحرب الأهلية، واجترح طريقا ثالثة وأعاد إلى الواقعية بعض نبلها وهي التي كثيرا ما امتُهنت، في زمننا هذا، مفاضلةً كالحة بين شرّيْن. وصحيح أن استقلال كوسوفو كان يمكنه أن يكون افتراقا بالتراضي لا فعل أمر واقع، مخالفا للقانون الدولي إن أخذنا هذا الأخير بحرفيته يتوجسه حتى بعض من قد يتعاطفون معه، دولا وبلدانا تخشى تبعاته مثالَ انفصالٍ يلهم أتراكها قبرص أو باسكها إسبانيا... الخ. ولكنها المرة الأولى، منذ أمد، التي يظهر فيها شعب جديد إلى الوجود، دولة وسيادة، فيحتفي العالم، أو جله الفاعل، بظهوره ذاك، معيدا إلى مبدأ"تقرير المصير"اعتباره في الحياة الدولية بعد أن كانت سياسات القوة قد استتبت سافرةً فنالت منه وازدرت به. وصحيح أن مسعى باراك أوباما قد لا يصل إلى منتهاه وأنه إن نجح في نيل ترشيح الديموقراطيين فإنه من المستبعد، إلى درجة التعذر ربما، أن ينال تفويض الأميركيين، عندما يجد الجدّ، أي في الرئاسيات، وصحيح أن قوله قد لا يتعدى حرارة الخطابة وأن برنامجه فقير أو غير محدد المعالم وغير مقنع، ولكن ما يبدو متحققا حاصلا أن مغامرة المرشح الخلاسي قد أفصحت عن أميركا لم تكن متوقعة، أميركا ما عادت تتعرف على نفسها في رجال المؤسسة ونسائها، في ثنائية حزبية ضمرت الفوارق بين طرفيها، رؤية ووعودا، فاستحال الصراع بينهما من مقارعة أفكار إلى تنافس على الإغراء بواسطة"الصورة"وفنون الاتصال، أميركا تسعى إلى تجاوز واقع الانقسام العرقي وإجحافه المقيم، عاد إليها، أو إلى بعض أوساطها التي التفت حول أوباما، نفس من تحرر واستعادت توقا إلى السخاء، يستحضران ستينات القرن الماضي، حقوقها المدنية وانفتاحها الكوني. هي إذاً تباشير عودة إلى التاريخ، أو عودة التاريخ، بما هو ارتياد لغير المألوف، ومغامرة اجتراح مصير. إذ لم يكن خاطئا تماما الخطأ فرانسيس فوكوياما عندما أطلق نبوءته الشهيرة حول"نهاية التاريخ"فأثار سخرية كل ذي حس سليم وحماس جموع الانتلجنسيا الرثة، تستهويها الوصفات الجاهزة. لقد عشنا شيئا من ذلك خلال العقد المنصرم أو ما يدانيه، وإن لم يكن على نحو ما توقعت يوتوبيا المفكر الأميركي-الياباني، رخاء اقتصاديا عميما وديموقراطية مستتبة في أرجاء الكون، ولكن واقعا كابوسيا أو أقرب إلى الكابوس. لقد شهد ذلك العقد ما يمكن وصفه ب"تعليق التاريخ": استتب أنموذج واحد وحيد، فلا وجود ولا خلاص خارجه، فانعدمت ملكة الاختيار أمام الأفراد والجماعات، وتمكنت حتمية السوق، غاشمة صارمة وملزمة أكثر من أية"حتمية تاريخية"كانت الإيديولوجيات السابقة قد زعمت أنها أداتها، فحيث كانت الأخيرة فعلا قسريا مسلطا على الأفراد والجماعات من خارجها، استوت الأولى شرطا إنسانيا، أو ما يقوم مقامه، للبشرية المعاصرة، لكائن وحيد البعد هو"الكائن المستهلك"، الموغل في الفردية، وهذه أضحت مجرد نهم متعوي، حتى اهتزاز أواصر الاجتماع أو انصرامها. استبدت الرتابة بالفضاء العام حتى فقدت السياسة معناها، إذ أضحت لا تتيح خيارا، أي كفت عن أن تكون آية امتلاك الفرد لمصيره، فإذا هذا الأخير يقبل عليها إقباله على البضائع، يتوهم أنه يختار في حين أنه نهب لردود فعل تستثيرها لديه تقنيات التسويق. سادت وهيمنت على الصعيد الكوني قوة عظمى وحيدة، تنفرد بالسيادة على العالم، وبقرار الحرب والسلم، وبإملاء القانون وبالنطق بالشرعية، واستوت في كل ذلك مرجعية ومرتبة معيارية، وإن بالقوة السافرة، فأضحى الاعتراض عليها انشقاقا وإجراما يُعاملان بصفتهما تلك، أي خارج ما استقر أعرافا وقوانين دولية، من احتلال العراق إلى معتقل غوانتانامو. كف المعترض عن أن يكون عدوا، بالمعنى التقليدي في العلاقات وفي الصراعات الدولية، يقترح شيئا مغايرا أو يصدر عن موقف مختلف، لا سبيل إلى حسمه إلا بقوة السلاح،"امتدادا للسياسة"وفق قول شهير، كي يصبح مجرما خارج القانون، أي لا سياسيا، أي مارقا حيال نصاب مرجعي ويزعم انفراده بالمرجعية ومن هنا مصطلح"الدول المارقة"، يضع المعترضين عليه خارجه، فيجرمهم أو يوكل أمر الاعتراض ذاك إلى من يتوخون الإجرام ويحصره فيهم، شأن تنظيم القاعدة. نتاج كل ذلك، كان زوال السياسة و"تعليق التاريخ"، ضيّقا مجال الاختيار أو ألغياه... وطبعا هذه الحقبة. حقبة قطباها إدارة جورج بوش وتنظيم القاعدة، رمز الانفراد بمقدرات العالم ورمز المروق عليه إجراما... فهل ترانا مقبلين على نهاية تلك الحقبة؟ بعض ما يعتمل في العالم، ضامرا جنينيا، قد يبشر بذلك.