عدت من زيارة عمل قمت بها إلى جمهورية قبرص الشمالية التركية مترع النفس بالحزن والأسى على معاناة شعب شقيق، ينتمي إلى العالم الإسلامي، ويتشبّثُ بهذا الانتماء الثقافي والحضاري والتاريخي الذي هو حقٌّ من حقوق الإنسان المعترف بها دولياً في هذا العصر. إن المأساة الإنسانية الأليمة التي يعيشها الشعب القبرصي الشمالي التركي، تشكل إحدى المعضلات التي تضافرت ظروف وعوامل كثيرة لتصنع منها أزمة إقليمية مستفحلة عجز المنتظم الدولي حتى الآن، عن تسويتها بإيجاد حلول عادلة ونهائية لها، مما ضاعف من المعاناة الكبيرة التي يتجرعها هذا الشعب المسلم الطموح إلى الحرية والاستقلال، في إطار هويته الوطنية ذات الجذور الإسلامية الضاربة في عمق التاريخ. إن العالم يتحمل مسؤوليته عن عزل هذا الإقليم وضرب حصار شامل ظالم حوله، وعدم الاعتراف به كياناً سياسياً يمثل إرادة الشعب، ويحترم ميثاق الأممالمتحدة، ويؤمن بالسلام أسلوباً لمعالجة المشاكل وتسوية النزاعات. ولعل مما يزيد في إيلام النفس أن دولة واحدة فقط من دول منظمة المؤتمر الإسلامي، هي التي تعترف بجمهورية قبرص الشمالية التركية، هي الجمهورية التركية. والقبارصة الأتراك ممثلون في منظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب، تحت مسمى"الطائفة الإسلامية في قبرص الشمالية"، وهي صيغة لا تعبر عن الكيان السياسي حسب المفهوم الدستوري. إن لجمهورية قبرص الشمالية التركية مكاتب خارجية محدودة العدد، في كل من نيويورك ولندن وباريس وروما وبروكسيل وطهران وإسلام آباد ومسقط ودبي والكويت. وهذا وضع صعب للغاية، يفرض العزلة شبه الكاملة على هذا الإقليم الذي عانى طويلاً من الحرمان ومن العدوان على حرماته ومقدساته، والذي قدم شهداء على طريق التحرير في فترات سابقة تصاعدت فيها حدة الحرب الدينية المدعمة من الكنيسة ضد القبارصة الأتراك باعتبارهم مسلمين ينشدون إنشاء دولتهم ويحرصون على التشبث بهويتهم الثقافية والحضارية والدينية. إن مأساة هذا الشعب تعود إلى العقد السادس من القرن الماضي. ففي الأشهر الأولى من عام 1964، وعلى الرغم من الإجماع العالمي باستثناء اليونان على إدانة المجازر التي ارتكبها القبارصة اليونانيون في حق القبارصة الأتراك اندفع اليونانيون، مستفيدين من القرار، الذي أصدره مجلس الأمن الدولي، في 4 آذار مارس 1964، والقاضي باعتبار حكومة مكاريوس، هي الحكومة الشرعية في قبرص، اندفعوا في إتمام ما كانوا قد بدأوا به. وبالفعل، قام القبارصة اليونانيون، في غياب القبارصة الأتراك، بتعديل العديد من المواد الأساس في دستور 1960، وذلك في ضوء المقترحات الثلاثة عشر، التي قدمها مكاريوس، ورفضها القبارصة الأتراك، لأن هدفها الرئيس كان هو تحويل جمهورية قبرص إلى دولة يونانية، توجد فيها أقلية تركية، وذلك على مراحل، وعلى أساس فرض الأمر الواقع. وفي المقابل، أظهر القبارصة الأتراك صلابة وصموداً، في مقاومتهم التي مكنتهم من السيطرة على بعض المناطق، والاحتفاظ بها. وقد كلفهم ذلك الموقف الوطني الصامد سقوط آلاف الشهداء، وتحطيم الممتلكات والمرافق وهدم المساجد والجامعات والمدارس والمستشفيات. ثم تطورت الأوضاع في الإقليم، وتفاقمت المخاطر المحدقة بالقبارصة الأتراك، وسارت الأمور خطوات تدريجية في طريق إنشاء كيان يسعى إلى تقرير المصير"فتأسست الإدارة القبرصية التركية المستقلة عام 1974، ثم أعلن عن تأسيس دولة قبرص التركية الفدرالية عام 1975، ثم أعلن القبارصة الأتراك في قرار وطني شجاع، عن تأسيس جمهورية قبرص الشمالية التركية في مطلع العقد الثامن من القرن الماضي. وفور الإعلان عن الجمهورية، وفي اليوم نفسه، اعترفت تركيا بالدولة الجديدة، التي قامت على أساس حق الشعب القبرصي التركي في تقرير مصيره، أسوة بالشعب القبرصي اليوناني وكل شعوب العالم. وأكد القبارصة الأتراك في إعلانات وتصريحات أطلقها قادتهم، أن ما قاموا به، هو حق تؤيده وتناصره المواثيق والمبادئ الدولية، ومتفق مع ما أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الأول ديسمبر 1966 من أن :"كل الشعوب تتمتع بحق تقرير المصير، وبمقتضى ذلك، فإنها تحدد، بحرّية، وضعها السياسي، وتسعى، بحرّية، إلى تحقيق تطورها، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي". واجتمع السيد رؤوف دنكتاش الرئيس المؤسس للدولة الجديدة، في يوم إعلان الجمهورية، بموفد الأمين العام للأمم المتحدة، وسلمه نسخة من الإعلان مرفقاً بها رسالة إلى"خافيير بيريز دي كويلار، الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت، يشرح له فيها :"أن الشعب القبرصي التركي، لم يجد أمامه أي خيار سوى اتخاذ الخطوات المصيرية، القائمة على حقنا العادل، بوصفنا شريكاً مؤسساً، في الاستقلال والسيادة". كما عبرت الرسالة عن خيبة الأمل، التي تسبب فيها موقف الجانب القبرصي اليوناني، في المحادثات الثنائية بين الطائفتين. وشددت الرسالة على فيدرالية حقيقية، يمكن أن تقوم فقط بين شريكين متساويين، لهما الوضع السياسي عينه. وأكدت أن الشعب القبرصي التركي، بعد انتظار 20 عاماً، وفي ظل وضع سياسي غير مستقر، قد اتخذ الخطوة الشرعية لإعادة تحديد وضعه السياسي، في شكل جمهورية مستقلة، وغير منحازة، وممارسة حقه الطبيعي في تقرير المصير. وأعرب الرئيس دنكتاش عن رغبته في استمرار مهمة الوساطة، التي يقوم بها الأمين العام، والاستعداد لاستئناف المفاوضات تحت رعايته، في أي وقت. وأشار إلى أن اقتراحه عقد قمة جديدة مع"كبريانو"لا يزال قائماً. وبمراجعة بنود مقدمة إعلان جمهورية قبرص الشمالية التركية، نجد أنها تنطلق من جملة مبادئ هي من صلب القانون الدولي ، منها:"الالتزام بمبادئ ميثاق الأممالمتحدة، والالتزام بسياسة عدم الانحياز، وإعطاء الأهمية القصوى لضرورة صون السلام والاستقرار، والحفاظ على توازن القوى في شرق البحر الأبيض المتوسط، وعدم الانضمام إلى أي تكتل عسكري، والسعي إلى إقامة علاقات ودية بجميع البلدان، ومنع قيام أي نشاط في أراضيها، معاد لأي بلد. والالتزام بمعاهدات التأسيس والضمان والتحالف، وتأكيد الالتزام بالاتفاقات، التي قام عليها دستور"جمهورية قبرص"، في زيورخ ولندن، ومعاهدتي الضمان والتحالف، اللتين تضمنهما الدستور، ونص على أنهما جزء لا يتجزأ منه". أما إعلان الجمهورية فقد نصّ على ما يلي :"إن مجلسنا الذي يمثل الإرادة الحرة للشعب القبرصي التركي، والذي يؤمن بأن جميع البشر، الذين يولدون أحراراً ومتساوين، ينبغي أن يعيشوا في حرية ومساواة، وإذ يرفض التمييز بين البشر، على أساس العرق، أو الموطن، أو اللغة، أو الدين، أو لأي سبب آخر. وإذ يرفض، كذلك، جميع أشكال الاستعمار والعنصرية والقهر والسيطرة، وإذ يعرب عن الأمل أن يسود السلم والاستقرار، وأن تزدهر الحرية وحقوق الإنسان، لا في قبرص وحدها، بل في شرق البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط، والعالم أجمع، وإذ يتمسك بالرأي القائل بأن هذين الشعبين، اللذين قدر لهما أن يتعايشا جنباً إلى جنب في الجزيرة، في إمكانهما، بل يتعين عليهما، إيجاد حلول سلمية، وعادلة، ودائمة، لجميع الخلافات القائمة في ما بينهما، من طريق المفاوضات وعلى أساس المساواة، وإذ يقتنع اقتناعاً راسخاً بأن إعلان قيام جمهورية قبرص الشمالية التركية، لن يعرقل، بل سوف ييسر إعادة نظام المشاركة بين الشعبين، في إطار اتحادي، وسوف ييسر تسوية المشكلات القائمة بينهما، وإذ يراوده أمل أكيد، أن المفاوضات ستجري على أساس المساواة، وتحت رعاية الأمين العام للأمم المتحدة، بغية حسم جميع المسائل المعلقة بين الشعبين، بطريقة سلمية، وتوفيقية، واقتناع بأن اجتماع القمة المقترح، سيكون مفيداً في هذا الصدد. وإذ يعمل باسم الشعب القبرصي التركي، يوافق على تأسيس"جمهورية قبرص الشمالية التركية"، وعلى إعلان الاستقلال". فمن خلال إعلان الجمهورية هذا، يتضح لنا أن القبارصة الأتراك ملتزمون بالشرعية الدولية، متشبثون بمبادئ القانون الدولي وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحريصون على الالتزام بالمعاهدات والاتفاقات والعهود، ومنحازون إلى السلم والأمن، ومحافظون على الاستقرار في الجزيرة. فيكف إذن يفرض المجتمع الدولي العزلة الظالمة على هذه الجمهورية الوليدة؟. وكيف يقف العالم العربي الإسلامي، بصورة خاصة، موقفاً إزاء هذا الشعب الشقيق يتعارض مع مقتضيات الأخوة في الدين وفي الثقافة وفي التاريخ؟. إن الوضع السياسي والاقتصادي والتعليمي الآن في جمهورية قبرص الشمالية التركية ينمو بشكل مثير للإعجاب، على الرغم من العزلة والمقاطعة المفروضتين بالإكراه على هذه الجمهورية. ومع ذلك فإن القادة القبارصة الأتراك والمسؤولين الذين التقيت بهم خلال زيارتي لبلدهم، يؤكدون جميعهم على إرادة الإصرار على البقاء في ساحة الصمود بقوة القانون الدولي. ولكنهم في الوقت نفسه، يعتبون، عتاباً أخوياً رقيقاً، على إخوانهم في العالم الإسلامي، ويناشدونهم التحرك لإقامة جسور التواصل والتقارب والتعاون فيما يعود بالفائدة على إخوانهم القبارصة الأتراك. وليس في الأفق بارقة أمل في الوقت الحاضر، للخروج من هذه العزلة الدولية. ولكن المسؤولين القبارصة الأتراك، لم يفقدوا الأمل في دور حيوي نشيط يقوم به الأمين العام للأمم المتحدة، لإعادة الانتعاش إلى الاتصالات والمفاوضات بين الطائفتين التركية واليونانية، تحت رعاية الأممالمتحدة. خاصة وأن القبارصة الأتراك وافقوا على مقترح الأمين العام السابق للأمم المتحدة في الاستفتاء عام 2004، بينما رفضه القبارصة اليونانيون. ومن المصادفات ذات الدلالة العميقة، أن إعلان استقلال جمهورية كوسوفو، جاء متزامناً مع الزيارة التي قمت بها إلى جمهورية قبرص الشمالية التركية. ولعل هذا الحدث الذي هزَّ أوروبا، أو بالأحرى فاجأ أوروبا والعالم أجمع، من شأنه أن يحرك المياه الجامدة، ويدفع في اتجاه إعادة الحقوق الشرعية للقبارصة الأتراك، ليعترف بهم العالم، ولتفك العزلة عنهم. وتلك مسؤولية العالم الإسلامي في المقام الأول. فهل من أمل في تحرك عربي إسلامي للضغط على المجتمع الدولي من أجل إنصاف هذا الشعب الشقيق وتحقيق مطالبه العادلة؟. وجملة القول إن استمرار عزل جمهورية قبرص الشمالية التركية لا يخدم السلم والأمن في هذا الجزء من العالم. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسييسكو