يصادف يوم 18 نيسان أبريل من كل عام اليوم العالمي لحماية التراث الإنساني، وذلك بحسب الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة في باريس في عام 1972. وهذه الاتفاقية تصنف التراث البشري بنوعين، ثقافي ويشمل الآثار والأعمال المعمارية والمجمعات العمرانية والمواقع الحضرية ذات القيمة الاستثنائية، وطبيعي ويشمل المعالم الطبيعية المتآلفة والمواقع الطبيعية المحددة بدقة والتي لها قيمة عالمية. وبدهية هي الأسباب لتوقيع هذه الاتفاقية، حيث بات العديد من المواقع التراثية المهمة مهدداً وهي تشكل لا تراثاً محلياً فقط وإنما أضحت تنتمي للتراث العالمي للبشرية حيث تعود لآلاف السنين ما لا يمكن، بل يستحيل، تعويضه في حال اندثاره أو دماره. وتنص الاتفاقية في بند إعلانها الافتتاحي على أن حماية هذه الممتلكات التراثية يقع على عاتق المجتمع الدولي باعتبارها إرثاً عالمياً. وتتقاسم مسؤولية الحماية الجهات الوطنية والدولية. أما الوطنية، وبحسب المادة الرابعة من الاتفاقية، فتقع عليها مسؤولية تعيين التراث الثقافي والطبيعي الذي يقع في إقليمها وحمايته والمحافظة عليه وإصلاحه ونقله إلى الأجيال المقبلة، فيما يمكن أن تستعين بالمؤسسات الدولية المعنية على المستويات المالية والفنية والعلمية والتقنية. ومع تطور الصراعات واندلاع الحروب منذ توقيع الاتفاقية العالمية، بات العديد من المواقع المهمة وذات القيمة التاريخية مهدداً أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً في مناطق النزاع الإستراتيجي في الشرق الأوسط، ومنها العراقوفلسطين، وكنتيجة لهذا التطور انبثقت اللجنة الدولية للدرع الأزرق International Committee of the Blue Shield ICBS وهي المعادل الثقافي للصليب الأحمر الدولي، والتي تأسست عام 1996 من أجل العمل على حماية التراث الثقافي الذي تهدده الحروب والكوارث الطبيعية. والجدير ذكره أن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي http://whc.unesco.org/en/list/ والتي تقدمت بها دول العالم وضمن شروط وتوصيات وقرارات للجنة منتخبة، بحسب نص المادة الثامنة وتدعى"لجنة التراث العالمي"، تحوي أسماء الدول والمناطق التي تم إقرارها كمناطق تراثية يتوجب الحفاظ عليها وترميمها ورعايتها من الأخطار الداخلية مثل الإهمال وسوء الاستعمال وتتصدرها بعض دول العالم الثالث كمصر في القاهرة الفاطمية مثلاً أو الخارجية نتيجة الحروب والاحتلال وفي مقدمها الدول الشرق أوسطية وبالذات فلسطين. ومن المفارقة أن فلسطين وبالذات مدينة القدس والتي تعد قطعة من التراث العالمي بمبانيها وحاراتها ودروبها لم تدرج ضمن قائمة الدول وإنما صنفت تحت عنوان القدس تم اقتراحها من الأردن، فيما احتوت إسرائيل على خمسة مواقع مدرجة منها تل أبيب. أما البحث عن اسم فلسطين في القائمة فلا يتمخض عن نتيجة، وكأن الضفة الغربية والقطاع التي تزخر بما لا يحصى من المباني والمواقع ذات القيمة المعمارية والحضارية والثقافية، والتي تتعرض للإزالة على الدوام، وبممارسات منهجية دؤوبة، من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي فلا مكان لها في قائمة التراث العالمي أو الضمير الإنساني للأمم المتحدة. ومن هنا يكبر ويتعاظم الدور الحضاري والثقافي الذي تقوم به العديد من الجمعيات والمؤسسات التي أخذت على عاتقها توثيق التراث الفلسطيني في غياب التبني الدولي للمشروع الفلسطيني وتحت نير القهر والتدمير العشوائي"المبرمج"لتغييب هوية شعب وطمس ذاكرة مكان. وغني عن التذكير بأن هذه المؤسسات والهيئات تعمل في أشد الظروف وأحلكها وتراوح بين نبذ القبيلة من غياب السلطة الراعية المسؤولة والداعمة وبين إرهاصات المرحلة. ومن هذه الجهود ما تقوم به الجمعية الثقافية العربية في الناصرة برعاية مديرة المركز الدكتورة روضة بشارة، من أنشطة وبرامج وفعاليات ترمي إلى تأسيس مركز بحثي لتوثيق التراث العمراني الفلسطيني. أما الجامعة الإسلامية بغزة، وتحديداً قسم العمارة فيها فلا يألُ جهداً في هذا الإطار. ويصدر القسم مجلة العمران الفصلية، برعاية الدكتور المعماري أسامة العيسوي رئيس تحريرها، وتعالج موضوعات تخص التراث والتحديات التي تواجهها العمارة الفلسطينية عموماً والمستوى التعليمي الذي وصله أبناء الشعب الفلسطيني في مجال العمارة وهم تحت الاحتلال، وفي خضم صراعات الأطياف المختلفة. وأخيراً انبثق من هذه الجهود مركز أكثر تخصصاً لرعاية ودراسة وتوثيق التراث الفلسطيني في المناطق المحتلة هو مركز عمارة التراث بجامعة غزة برعاية رئيس المركز الدكتور المعماري أحمد المحيسن. ويعمل المركز للمحافظة على التراث المعماري الفلسطيني. ويقيم مؤتمراً في نيسان أبريل المقبل بعد يوم التراث العالمي لدعوة الباحثين والأكاديميين والخبراء لتجنيد طاقاتهم الفكرية في إطار الحفاظ على التراث. كما على دراسة وتوثيق المباني التي استعمل الخزف فيها واستخدام الحاسوب في عملية غير مسبوقة ومثيرة للإعجاب. والعجب كل العجب من السلطة الفلسطينية بأطيافها وألوانها من يمينها الى وسطها فيسارها إذ فاتها، في خضم صراعها السلطوي الموهوم، المشروع الحضاري الجسيم الملقى على عاتقها - شاءت أم أبت - والمتمثل في حفظ الهوية الحضارية. فالتراث العمراني الذي يجسد أعلى درجات الحضارة وهو أهم منتجاتها عبر العصور يظل الشاهد الوحيد على ذاكرة شعب. ذاكرته الاجتماعية بعاداته وتقاليده وحركاته وسكناته وما تفتقت عنه عقليات وسواعد الآباء والأجداد مما يعد التفريط به خطيئة حضارية ليس بعدها خطيئة. تراث ينطق بعروبة الأرض والمكان وبأرض تنشق هواءها الأنبياء ووطئت أقدامهم الطاهرة ترابها المقدس. وكان الأجدى بالسلطة أن تفرد نصيباً وافراً للدفاع عن تراث لا يلوي المحتل على شيء قبل تدميره وتفتيته ومحوه، دفاعاً حقيقياً يتمثل بتنصيب ودعم الكوادر المؤهلة ورفدها بالموارد والإمكانات المختلفة التي تمكنها من القيام بعملها الحضاري الوطني على أكمل وجه. وحتى لا نغفل العام بحديثنا عن الخاص، فالتراث الفلسطيني المنوط برقبة الساسة ومن تطوع لتولي أمرها لا يقتصر على التراث العمراني فحسب، بل يمتد الى دعم ورعاية كل ما يمس الهوية الفلسطينية وديمومة وجودها على أرضها المقدسة. ويشمل، ولا يقتصر، على دعم البرامج والمؤسسات والهيئات الثقافية المحلية التي تجاهد بالفكر والقلم لتقرير حقيقة ودحض أكذوبة، بل على تأهيل الكوادر البشرية والمحافظة عليها في ظل هجرة العقول والكفاءات الفلسطينية. وهذه ضرورة تاريخية ودور لا مناص منه للسلطة وليس من مبرر لغيابه عن أجندة الوطنيين الصادقين من أبناء الشعب الفلسطيني كل بحسب موقعه. * معماري وأكاديمي عربي - لندن