اصبح الاسلام منذ جريمة الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 الشغل الشاغل للمثقفين الغربيين الأوروبيين منهم والأميركيين. وهذا ما لاحظه جان غريش رئيس تحرير مجلة"اللوموند ديبلوماتيك"بقوله إن اقبال الجمهور الغربي على الكتب المتعلقة بالاسلام والعرب ازداد أضعافاً. فهو يريد أن يعرف ماذا حصل، ولماذا حصل ما حصل، ومن هم العرب حقيقة، وما هو الاسلام، وماذا تقول نصوصه المقدسة؟ هذا العطش المعرفي عند الغربيين وبخاصة مثقفيهم، يقابله عطش من نوع آخر عند المثقفين العرب، عطش يحاول هؤلاء المثقفون أن يجيبوا عليه بالعودة الى الاسئلة التي طالما طرحها رجال الفكر والسياسة في مطلع النهضة، حول أسباب تقدم الغرب وتخلّف العرب، وحول أسباب غرق العالم الاسلامي، في العيش بهدي تصورات الفقه القديم، وتعليلات القرون الوسطى، التي أدّت الى نشوء الاصولية وازدهارها في أيامنا. يمثل هاشم صالح في كتاباته عن العرب والغرب، وعن التخلّف والحداثة مثال المثقف الملتزم قضايا العالم العربي، فهو يبحث في كتابه الصادر عن دار الساقي بعنوان"الانسداد التاريخي، لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي"عن الأسباب التي دعت الى الانسداد الحضاري الذي يعانيه العالم العربي والاسلامي. ينطلق هاشم صالح من معطية وجودية تذهب الى القول ان سبب التخلف العربي عائد الى الانغلاق الكامل داخل يقينيات القرون الوسطى التي تتخذ صفة الحقيقة الالهية المقدسة التي لا تناقش ولا تخضع للعقل بأي شكل، وللتوضيح يكتب صالح:"بهذا المعنى فإن المسلم التقليدي سجين يقينياته المطلقة مثلما كان المسيحي التقليدي سجين يقينياته قبل انتصار الحداثة والتنوير في أوروبا، ولا أرى أي فرق بين الحالتين". ويذهب صالح الى أبعد من اليقينيات الدينية في الرؤية والتفسير التي كانت مدعاة الانسداد التاريخي في العالم العربي الى أسباب أخرى. من هذه الأسباب وما يورده المؤلف حول أهمية الغزو المغولي في القرن الثالث عشر الذي دمّر بغداد وبقية المراكز الحضرية الاسلامية، فقد استباح هذا الغزو المكتبات والبشر في الآن نفسه، ولم تقم للعالم الاسلامي قائمة بعد ذلك التاريخ. وما يورده أيضاً حول العوامل الاقتصادية. فقد تحولت الخطوط التجارية عن العالم الاسلامي بعد اكتشاف أميركا فضعفت البورجوازية في بغداد وسواها من حواضر العالم الاسلامي، وانتعشت الحواضر الأوروبية ومرافقها التجارية. هذه هي بعض العوامل التي يذكرها المؤلف والتي أدت الى انحطاط العالم الاسلامي، ولكن هناك سبباً آخر يتوقف عنده صالح يتعلق بالعوامل المناخية. فالهلال الخصيب الذي كان مهد الحضارات على مدار القرون ابتدأ يتصحّر مع الوقت أكثر فأكثر، ويفقد غاباته ومياهه، فيما أوروبا كانت طبيعتها خصبة ومناخها معتدلاً، وتربتها كثيفة يمكن أن تزرع اكثر من مرة في السنة. لقد أصبحت أوروبا بفعل التطورات التجارية والسياسية والدينية مهيمنة من كل النواحي منذ القرن السادس عشر وأصبح الشرق العربي الاسلامي خراباً وما صارت اليه أوروبا على مدار خمسة أو ستة قرون كان بفضل الاصلاح الديني في القرن السادس عشر، ثم الثورة العلمية الحديثة على يد غاليله وديكارت ونيوتن في القرن السابع عشر، ثم فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، وهي الفلسفة التي أدت الى نقد الدوغماتية المسيحية المتحجرة، وفتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود. وشهدت في القرن التاسع عشر الثورة الصناعية التي تواصلت انجازاتها في القرن العشرين. كل هذه الثورات والانقلابات حصلت بمنأى عن العالم العربي والاسلامي. إذ كان يغطّ في نوم عميق أثناء حصولها الواحدة بعد الأخرى. هذا الغطيط التاريخي، أو بالاحرى هذا الانسداد التاريخي هو الذي أنبت الأصولية الاسلامية الطلاقية والفاشية على السواء. يكتب هاشم صالح في هذا السياق:"لها أعماق أي الأصولية تاريخية تعود الى مئات السنين، وبالتحديد الى اللحظة التي دخلنا فيها عصر الانحطاط وتعطلت تلك الجدلية الرائعة بين العقل والنقل، أو بين الفلسفة والدين". ويتفق المفكرون على القول، على ما يزعم صالح، ان هذه اللحظة تعود الى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي حيث ماتت الفلسفة، وتشكل لاهوت انحطاطي ظلامي هو الذي يستخدمه بن لادن والزرقاوي اليوم لتبرير أعمالهما الاجرامية. ذلك أنه تشكل في تلك اللحظة فهم ضيّق للدين الاسلامي وعدواني، فهم معاد للعقل والانفتاح والتسامح الى أقصى الحدود، وهذا الفهم أو بالأحرى هذا الجهل، على ما يرى مؤلف الكتاب، هو الذي يمتد منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، وهو"الذي يسيطر علينا اليوم". ويضيف المؤلف ان جذور التعصب الديني الذي نشهده اليوم في كل انحاء العالم الاسلامي، بل حتى لدى الجاليات الاسلامية المقيمة في الغرب، تعود الى سبعمئة أو ثمانمئة سنة الى الوراء."إن السبب فكري، لاهوتي، عقائدي، قبل أن يكون اقتصادياً أو سياسياً أو قصية فلسطين والشيشان والعراق". يسترشد هاشم صالح في تبيان العلاقة بين الانسداد التاريخي الذي يعانيه العالمين العربي والاسلامي وبين الأصولية برأي المستشرق المعروف برنارد لويس، ومفاده أن المسلمين ليسوا ضحية الغرب بقدر ما هم ضحية انغلاق تاريخي مزمن ومتواصل منذ قرون عدة. وبسبب هذا الانغلاق هو سيطرة اللاهوت الديني القديم على عقلية المجتمع منذ القرن الرابع عشر. فقبل هذا التاريخ كانت الحضارة العربية الاسلامية الكبيرة قد استوعبت التراث الاغريقي الروماني وانتصرت عسكرياً على ما عاداها، بل كانت متفوقة على الغرب اقتصادياً وثقافياً طوال قرون عدة. ويوضح برنارد لويس في مكان آخر ان السلطات الدينية عارضت دخول المطبعة الى الامبراطورية العثمانية طوال ثلاثة قرون خوفاً من دخول الأفكار الجديدة. وهذا يعني على ما يرى هاشم صالح:"ان المرض الحقيقي الذي يعانيه العالم الاسلامي هو نقص الحرية. إن لم نقل انعدام الحرية". ويورد هاشم صالح أيضاً في مجال توضيح العلاقة بين التأخر الحضاري والأصولية الاسلامية الى جملة آراء للمستشرق مكسيم رودنسون تقول إن المشروطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا تكفي وحدها لتفسير انسداد الفكر النقدي في العالم الاسلامي، فهناك أيضاً عامل آخر ثقافي يتجلى في ان المجتمعات الاسلامية لم تشهد ظهور أصوات احتجاجية قوية ضد التراث المتراكم كما حصل في أوروبا مع فولتير وروسو وديدرو، ولا تزال المجتمعات الاسلامية تعيش كما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى، وأول شيء يجب فعله هو الخروج من عقلية القرون الوسطى الغيبية والمذهبية الضيقة. هذا يعني كما يقول المؤلف: انه لا يوجد دين يسمح بالتطور ودين يمنعه كما يزعم أعداء الاسلام والعروبة في الغرب. والدليل على ذلك ان الحداثة في أوروبا اصطدمت بالمسيحية أو قل بالفهم المتزمت لها مثلما تصطدم حالياً بالاصولية الاسلامية سواء بسواء. فالفهم المستنير للدين هو الذي يشكل بداية الانطلاقة الحضارية، وهو الذي يحرر الطاقات المكبوتة أو المكبلة. ومن دونه لا يمكن للحضارة ان تتشكل ولا للنزعة الانسانية ان تسود". ويعرض هاشم صالح ايضاً لتشخيص الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لمشكلة العالم الاسلامي التي تتبلور في أن العالم الاسلامي لم يشهد مرحلة التنوير حتى الآن على عكس ما حصل في أوروبا، ولذلك فإن الصدام حاصل بينه وبين الغرب، حالياً، وسيظل هذا الصدام مستمراً ما دام نظام القيم العليا أو المرجعيات مختلفاً أو متناقضاً في كلتا الجهتين، ففي جهة الغرب تسيطر المرجعية الفلسفية والسياسية الحديثة التي فصلت اللاهوت الديني عن السياسة، وفي جهة العالم العربي أو الاسلامي لا يزال هذا الفصل مستحيلاً حتى الآن. ولهذا السبب فإن الحركات الاصولية تتمتع بشعبية كبيرة في الشارع العربي. لكن دريدا حذر من الخلط بين بن لادن والجماعة الظلامية من جهة، وبين العرب والمسلمين بأجمعهم. ففي العالم العربي يوجد سياسيون وأساتذة جامعات وصحافيون وشعراء وروائيون، ومثقفون عديدون لا علاقة لهم بذلك التيار المتزمت الذي أعلن الحرب على العالم كله من منطلق المرجعية اللاهوتية للقرون الوسطى وظلاميتها العمياء. مهما يكن من أمر فإن انفجار الحركات الاصولية في العالم العربي والاسلامي وضع الجميع أمام حقيقة وجودية لا مفر منها قوامها خيار من اثنين: إما الحداثة والتنوير، وإما لاهوت القرون الوسطى، وإما ابن رشد وكانط وهيغل، وإما ابن تيمية والظواهري وبن لادن، فمن يجرؤ على الخيار الأخير؟ حتى المحافظون لا يستطيعون ان يفعلوا ذلك متجاوزين الحكم الديموقراطي، والتسامح الديني ودولة الحق والقانون.