ثمة انسداد تاريخي يمنع العرب والشعوب الإسلامية من الانطلاق ناتج عن هيمنة مجموعة من اليقينيات الجماعية المطلقة التي لا تناقش ولا تخضع للعقل، والتي أصبحت عالة علينا وعلى العصر وعلى البشرية بأسرها. من هذه المقولة ينطلق هاشم صالح في كتابه"الانسداد التاريخي، لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟"دار الساقي، 2007، ليذهب الى أن الأساس الفلسفي والأيديولوجي لهذا الانسداد كامن في التناقض المطلق بين النص والواقع، أي بين النص وكل التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي جاءت بها الأزمنة الحديثة. فالثورة الحداثية التي عصفت بالغرب منذ ما يزيد على أربعة قرون، إن في العلوم والاختراعات أو في الفكر والفلسفة والسياسة والموقف من الدين، ظلّت في منأى عن العالمين العربي والإسلامي الذي لا يزال محكوماً بالفقه الظلامي للقرون الوسطى المستمرة عندنا حتى الآن. لكن الذي يحصل الآن حول الإسلام من معارك فكرية وسياسية قد يكون المقدمة التمهيدية لفتح كل الملفات القديمة المغلقة منذ ألف سنة وأكثر، وربما كان مؤشراً الى حركة التاريخ، فهناك شيء ما يختلج في أعماقنا، وهناك حداثة عالمية تحيط بنا وتحاصرنا أكثر فأكثر، وهذان العاملان سيقودان لاحقاً الى الإصلاح والتنوير. والتراث الذي نرتكب باسمه أبشع أنواع العنف والإرهاب سيدفع الثمن طال الزمن أو قصر، ولن يستطيع أن يفلت من عملية المحاسبة التاريخية الصارمة. فالمسلمون يقتربون من منطقة الاستحقاقات الكبرى التي لا مفر منها، وأولها إخضاع تراثهم للدراسة العلمية والمساءلة الشديدة. على رغم أن الانسداد لا يزال مطبقاً، وأخطبوط القديم لا يزال صامداً بل قادراً على إيقاف أي محاولة لفتح أضابير التراث المغلقة، وعلى رغم أن العمل التفكيكي التحريري الذي اضطلع به الغرب إزاء أصولياته القروسطية لا يزال يبدو مستحيلاً في العالمين العربي والإسلامي. فانفكاك الانسداد التاريخي في المسيحية الأوروبية ما كان ممكناً أن ينجح لولا أن سبقته طفرات علمية وفلسفية وسياسية لا مثيل لها في التاريخ، تمثّلت في الثورة العلمية لكوبرنيكوس وغاليلو وكيبلر ونيوتن وآينشتاين، وفي الثورة الفلسفية لديكارت وكانط وهيغل وروسو وفولتير، وفي الثورات السياسية في إنكلترا 1688 وفي أميركا 1776 وفي فرنسا 1789، ما أتاح تقبّل لاهوت التنوير والتخلي عن لاهوت التكفير والتحريم. هنا يتساءل المؤلف: ألم يحن الأوان بعد لتجاوز المرحلة الأيديولوجية التي سيطرت علينا طوال المرحلة السابقة، سواء كانت قوموية أو ماركسوية أو حداثوية هشة أو إسلاموية متطرفة، فهذه جميعاً، على تناقضها، تميزت بضمور الحس التاريخي لديها، واحتقارها الكلي أو النسبي لمفهوم الحقيقة، ما يُبرِّر الانتقال الى المرحلة الابستمولوجية، بتغيير مناهجنا وأفكارنا لكي نستطيع أن نتأقلم مع العالم الجديد، خصوصاً بعد خراب العراق ولبنان وفلسطين والأخطار الداهمة من كل جانب. في هذا الإطار تُطرح المسألة التي تتوقف عليها كل المسائل: كيف يمكن تحرير الروح العربية من عقالها؟ هذه الروح سجينة مغلولة، مقيدة، من سيفك أسرها؟ وبهذا المعنى فإن تحرير الروح الداخلي يسبق التحرير الخارجي، وسيكون الشرط الأول والمسبق لكل تحرير آخر، اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي. حول هذه المسألة ستدور رحى المعركة الفكرية المقبلة، وكل شيء يدل على أن مرحلة الاستحقاقات الكبرى قد أزفت، وأن مصالحة الإسلام مع الحداثة رهن بخوض هذه المعركة التي قد تكلِّف ملايين الضحايا. إلا أن الحقائق المطموسة قبل ألف سنة ستنبثق لتحل محل اليقينيات القروسطية التي لم تعد مقنعة إلا للجماهير الجائعة. المعركة كما يطرحها صالح تبدأ بمواجهة الخطاب الأصولي على أرضيته الخاصة بالذات، أي أرضية الفكر الإسلامي، من خلال الاعتراف بالبعد التاريخي للنص الديني، أي بمشروطيته التاريخية بالقرن السابع الميلادي وشبه الجزيرة العربية ثم بالبيئة السورية - العراقية في القرون الهجرية الثلاثة الأولى حيث تبلورت الشريعة أو الفقه القديم، من دون أن يعني ذلك كله إنكار تعالي النص أو استلهامه الرباني، وإنما التفريق بين ما هو عرضي وما هو دائم، فتتم بذلك المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة، بين الإيمان والعقل، بين الفكر الديني والفكر العلمي، بين اللاهوت والفلسفة. ولكن هذه المصالحة غير ممكنة من دون تطبيق منهجية النقد التاريخي على النص الديني، المنهجية إياها التي طبقها الأوروبيون على آدابهم وتراثهم الديني، فدشنوا بذلك قطيعة ابستمولوجية مع الرؤية التقليدية للعالم وأحلوا محلها الرؤية العلمية الفلسفية. ألا ينبغي للمثقفين العرب الاضطلاع بالمهمة ذاتها للوصول في نهاية المطاف الى التأويل العقلاني المنفتح والمتسامح للإسلام، الأمر الذي أهمله هؤلاء على مدى السنوات السابقة. مهمة شاقة ومرهقة، ولكنها الوحيدة المؤدية الى تشكيل فلسفة جديدة للإنسان في الساحة العربية، ووحدها الموصلة الى شاطئ الأمان. في نظرة إجمالية يمكن اعتبار الكتاب إسهاماً ولو متواضعاً في معركة التنوير العربية التي يقودها منذ الثلث الأخير من القرن الماضي المفكرون المتنورون العرب من أمثال عبدالله العروي ومحمد أركون وناصيف نصار ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد. إلا أننا نسجل ملاحظات على المؤلِّف على رغم اتفاقنا مع منحاه النقدي العقلاني. أ ? اعتور كتابه، فضلاً عن التكرار والاستعادة، تشوُّش واضطراب منهجيان تكاد تضيع معهما أحياناً الرؤية الشاملة الناظمة لموقفه الفلسفي. كما أنه لم يضف كثيراً الى كتابيه السابقين"معضلة الأصولية الإسلامية"وپ"مفهوم التنوير الأوروبي"، وبدا كتابه الراهن وكأنه استعادة وتكرار لهذين الكتابين. ب ? طغت على المؤلِّف رؤية فلسفية مثالية ذهب من خلالها الى أن الفكر هو الأصل الموجِّه لحركة التاريخ من دون سواه، والى أن كل أنواع التحرير مرتبطة بالتحرير الروحي، فأغفل بذلك أو طمس تلك الجدلية القائمة بين كل مظاهر النشاط الإنساني الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. فثمة عوامل أخرى فاعلة في حركة التاريخ لا يمكن اختصارها في العامل الروحي وحده، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي قد يكون هو المدخل الى التحرير الفكري والروحي وليس العكس. فقد تتقدم حضارات وتزدهر على رغم كونها محافظة متشددة في معتقداتها الروحية، ولنا في اليابان ثاني اقتصاد عالمي خير مثال على ذلك. ج ? قول المؤلف بنسبية الأديان وتطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث، مسألة دونها عوائق وعقبات تجعلها مغرقة في المثالية والرومانسية. فكيف ستطبَّق هذه المنهجية في عالم عربي يرزح تحت الأمية والفقر والأنظمة الاستبدادية التي تشل كل قدرة على التطلع خارج الأيديولوجيا السائدة؟ ومن سيضطلع بهذه المهمة في وقت لا يستطيع فيه المثقف العربي الوصول الى السواد الأعظم من الأمة وفك ارتهانه الى النخب التقليدية المهيمنة؟ إن الإنسان العربي إزاء المخاطر والتهديدات المحيقة به من كل جانب لا يجد ما يعتصم به ويلوذ إليه غير تراثه وليس بوسعه تحت هذه الضغوط أن يذهب في النقد التاريخي الى الحد الذي يحلم به المؤلف. ثم أليس من الواقعي والموضوعي إرجاع الانسداد التاريخي الى انسداد الآفاق العربية سياسياً واجتماعياً واقتصاديا؟ د ? ذهب المؤلف الى أن معركة العراق هي"أم المعارك التي حرمنا منها عقوداً وعقوداً"والى أن"التاريخ ابتدأ الآن في العراق"وأن هذه المعركة"المعركة نفسها التي جرت في أوروبا بين قوى القديم وقوى الجديد"ضارباً بهكذا استنتاجات حقيقة ما يجرى في العراق من تدمير لبناه الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتاريخية، ودفعه في حرب أهلية قد لا تلتئم بعدها وحدته الوطنية، فضلاً عن إغراقه في البؤس والعوز وهلاك أكثر من مليون من أبنائه وهدر طاقاته على كل الأصعدة، في ظل انتهاكات مريبة ومفزعة لحقوق الإنسان، ما جعل حتى أشد مناوئي صدام حسين من المتنورين العرب يترحّمون على ديكتاتوريته ومظالمه التي غدت أقل وطأة، مقارنة بما يجرى بعد الاحتلال وفي ظله، ما سيسهم سلباً على حركة التنوير العربية الى أمد بعيد.