منذ أن انسحبت إسرائيل من قطاع غزة عام 2005 وهي تسعى إلى التنصل من مسؤولياتها تجاه القطاع كسلطة احتلال عبر فصله عن الضفة الغربية، وتحويله إلى مجرد"كانتون"كحد أدنى أو إلحاقه بمصر كحد أقصى. وما إطباقها الحصار على القطاع وإعلانه"كياناً معادياً"في محاولة لشرعنة عقابها الجماعي لسكان القطاع، إلا خطوة في هذا الاتجاه. ومثل اجتياح مئات آلاف الغزيين في 23 كانون الثاني يناير الماضي لحدود مصر الشرقية أوج هذه الخطوة التي منحت إسرائيل أملاً في تنفيذ مخططها الذي من شأنه"تصفية القضية الفلسطينية". من هذا المنطلق تنظر القاهرة الى اجتياح الحدود الذي استنفر الأطراف كافة مصر، إسرائيل، والفلسطينيين مقسمين إلى سلطة رام الله وحكومة غزة لترتيب الأمر بما يحقق مصالحها، ولم يكن ذلك الموقف غائباً عن بال المسؤولين المصريين وسعوا منذ واقعة"الحسم العسكري"في القطاع إلى تفاديه. وتتبلور وجهة النظر المصرية إزاء ذلك الموقف كما تبدت من نقاشات أجرتها"الحياة"مع مسؤولين مطلعين على الملف، في النقاط الآتية: - إسرائيل تتحمل مسؤولية اجتياح الحدود، إذ إنها طبقت عقاباً جماعياً على أهالي القطاع متذرعة بإطلاق الصواريخ التي لا تكاد تُحدث أي أثر، والردود عليها دائماً ما تأتي"غير متناسبة"، إما لأسباب تتعلق بتوازنات تكتلاتها السياسية أو للتأثير في الوضع الفلسطيني الداخلي، وفي كل الأحوال هي تعرف أن انفجار أهالي القطاع سيكون في اتجاه مصر لأنها تعلم جيداً أن لا منفذ لهم سواها. - حركة"حماس"يبدو أنها"وظفت"من جانب أطراف إقليميين للضغط على القاهرة في محاولة للزج بها في خلافات الفلسطينيين الداخلية، فمثلاً لو أن ما حدث يوم 4 شباط فبراير حين قُتل فلسطيني وأصيب آخرون فضلاً عن جرح أفراد أمن مصريين أثناء محاولة ثانية لاقتحام الحدود بعد أن أكدت مصر أنها لن تسمح بتكرار الأمر، وقع يوم 23 كانون الثاني يناير لتحول"مؤتمر الفصائل"الذي كانت تستضيفه دمشق إلى"منبر للتنديدات"في وقت كانت شوارع القاهرة مشتعلة بالمتظاهرين القادمين من كل المحافظات بما يوحي بوجود تنسيق لإحراج السلطة في مصر. - سعت إسرائيل لاستغلال تلك الأحداث من أجل وضع"ترتيبات جديدة"من جانب واحد، تحكم هذه المنطقة الحساسة بما يحقق رغبتها في فصل القطاع تماماً عن الضفة كخطوة أولى، وهذا ما يفسره تحول نظرة المسؤولين الإسرائيليين للأمر، فبعد أن كانت تنظر إلى مسألة فتح الحدود في مرات سابقة على أنها"أمر خطير"بدا أنها"مرتاحة"عند الاجتياح وتحركت سريعاً في اتجاه بناء الأسوار والتحصينات التي ستحول غزة إلى"كانتون"لا منفذ له إلا مصر. - مسألة حصار غزة مرفوضة تماماً من جانب مصر من منطلق"إنساني"في البداية ثم سياسي، ومن هنا يجب توجيه الجهود في اتجاه فك الحصار في شكل"مقبول ودائم"وليس عبر"مسكنات"تمثلها اجتياحات أو تهريبات أو ما شابه. والخطوة الأولى في هذا الاتجاه تستلزم توافقاً فلسطينياً للتحدث مع الأطراف المعنيين الإسرائيلي والأوروبي والأميركي بصفتهم ضامني اتفاق المعابر بصوت واحد لئلا يعطوا حجة لأي من هذه الأطراف للتنصل من مسؤولياته في خصوص ضرورة توفير مقومات الحياة الأساسية كحد أدنى للشعب الفلسطيني ومن ضمنه أهالي القطاع. ومصر من جانبها لا ترفض أي صيغة تتفق عليها هذه الأطراف على أن تحقق أمرين مهمين، هما: ضمان استمرار تشغيل المعابر بما لا يجعل الأمر رهناً بإرادة إسرائيل بفرض حصار متى تشاء وفكه متى تشاء من دون إغفال دورها في إدارة المعابر، ثم تأكيد ضرورة الارتباط بين الضفة الغربية وقطاع غزة بما يسمح بتحميل إسرائيل مسؤولياتها كسلطة احتلال إزاء القطاع ويمهد لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة المترابطة الأطراف. أما الثوابت المصرية في خصوص التعامل مع هذه الأزمة، فتقوم على الأسس الآتية: - الحفاظ على الأمن القومي وعدم السماح بتكرار مثل هذه الاجتياحات للحدود ليس من جانب الفلسطينيين فقط، إذ إن الأمر ينطبق على كل حدود مصر، وهنا يجب الفصل بين مسألتي المعابر والحدود التي تعبر عن"سيادة"لن تسمح القاهرة بمسها. - مصر لن تسمح بتجويع الفلسطينيين، وهنا يجوز اتخاذ إجراءات من شأنها تنفيذ ذلك الأمر إذا كانت هناك ضرورة لذلك لحين حل هذه الأزمة في شكل دائم. - لن يُسمح لحركة"حماس"بفرض أمر واقع على الحدود تحت قوة السلاح مثلما فعلت في القطاع في حزيران يونيو 2006، وسعيها إلى فرض استمرار فتح الحدود بين غزة وسيناء في محاولتها الثانية التي تصدت لها القوات المصرية، فپ"حماس"ليست سلطة، غير أن فوزها في الانتخابات التشريعية جعلها"جزءاً من سلطة"وخطوتها"الانقلابية"في القطاع جعلتها في نظر القاهرة مجرد"حركة"أو"تنظيم"وربما تلك النقطة تفسر تعاطي المصريين مع وفد"حماس"برئاسة خالد مشعل الذي زار القاهرة أخيراً، إذ طغت السرية على تحركات قادة"حماس"بدءاً من الوصول ومكان الإقامة ومضمون المحادثات وصولاً إلى نتائجها، ولم يسمح لأي من وسائل الإعلام بمقابلة قادة الحركة الذين منعوا من الاجتماع مع قيادات جماعة الإخوان، إلا أن ذلك لا يعني تجاوز دورها في إدارة المعابر. لكن هذا الدور يحسم عبر"توافق فلسطيني"، فالسلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن المعابر وفقاً لبروتوكول عام 2005. ومصر ليست طرفاً فيه. - مصر من جانبها ستسعى إلى تأمين حدودها بشتى الطرق، ومن ضمن ذلك الإصرار على زيادة عدد القوات المصرية على الحدود علماً أنهم لا يزيدون حالياً عن 750 جندياً وفقاً للبروتوكول الملحق باتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وإذا كانت مصر طلبت مراراً من إسرائيل الموافقة على ذلك الأمر من أجل إبطال حجتها القائلة باستمرار تهريب الأسلحة عبر الأنفاق"حفاظاً على مصالحها مصر"التي دأبت تل أبيب على المس بها لدى الولاياتالمتحدة وأطراف أخرى استناداً إلى مزاعمها، فإن الأمر يطرح هذه المرة"حفاظاً على أمنها القومي وسيادتها". كما أن الاتفاقية تم تعديلها عقب الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وبالتالي يجوز بحث تعديلها ثانية. - إجهاض أي تحرك من شأنه فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة وإلحاق الأخير بمصر ورفض اقتراحات"حماس"في هذا الصدد بربط القطاع اقتصادياً مع مصر بدلاً من إسرائيل والتعامل معه على أنه"أرض محررة"يمكن أن تكون"نواة"لانطلاق مقاومة لتحرير بقية التراب الفلسطيني، ليس لأن مصر لا تريد أن تتحمل عبء القطاع، ولكن لما يمثله الأمر من خطر على القضية الفلسطينية التي تتجاوز الأبعاد الإنسانية ومآسي الحصار وما شابه، فمثل هذه المشاكل ما هي إلا انعكاسات للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإذا ما فرضت حلول لهذه المشاكل من جانب طرف فلسطيني في شكل منفرد، فإنها ستأتي على حساب"القضية الأم"التي تمثلها الدولة الفلسطينية المستقلة. فمثلاً لو طرح"الخيار المصري"لحل أزمة قطاع غزة ستكون الضفة قطعاً أقرب الى"الخيار الأردني"منها إلى"الدولة الفلسطينية"، والمستفيد الوحيد من وضع كهذا هي إسرائيل التي تعمل جاهدة لترسيخ هذه المعادلة التي تجعلها في حلٍ من أي التزامات بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وتسمح لها بالتنصل مَن أي اتفاقات دولية أو تسويات سياسية. - التصدي لأي محاولات لاستغلال الوضع الاستثنائي في القطاع من جانب أي من الأطراف الإقليمية أو الداخلية للتهييج وإثارة التوترات في مصر، خصوصاً في ضوء ما رصدته القاهرة من تنسيق بين"حماس"وجماعة"الإخوان"خلال تلك الأحداث بما يحقق مصالح متبادلة، فپ"الإخوان"يستغلون الوضع الإنساني الصعب لأهالي القطاع والذي تسعى القاهرة جاهدة من أجل إنهائه، لإثبات شعبية أو كسب شرعية، وپ"حماس"من جانبها سعت للاستفادة من التعاطف الشعبي مع الغزيين وتظاهرات"الإخوان"من أجل الضغط على النظام المصري لفرض أمر واقع جديد عند منطقة الحدود وإحداث"ترتيبات"جديدة تحت وطأة"الهبَّة الجماهيرية". ووفقاً لهذه المعطيات يمكن القول إن أحداث اجتياح الحدود أثرت في دوائر صنع القرار المصري في اتجاه عدم استبعاد وجهة النظر القائلة إن حكم حركة"حماس"منفردة لقطاع غزة يمثل خطراً على الأمن القومي المصري. فمنذ سيطرة الحركة على القطاع تعالت الأصوات التي تحذر من خطر"إقامة إمارة إسلامية"على حدود مصر الشرقية، علماً أن حركة"حماس"يُنظر إليها على أنها ذراع للتنظيم العالمي لجماعة"الإخوان المسلمين"في فلسطين. لذلك ربما لم تتحرك الأحزاب المصرية إزاء اجتياح الحدود. ويشير أبو العلا ماضي مؤسس حزب"الوسط"إلى خصوصية العلاقة بين حركة"حماس"وجماعة"الإخوان المسلمين"، ويقول إن"الإخوان يعتبرون أن حماس فرع منهم ولذا تفاعلوا بقوة أكثر من الأحزاب مع الحدث وهو ما لم نجده حين شن جيش الاحتلال حرباً على لبنان في صيف 2006 لأن الحرب كانت موجهة في الأساس ضد حزب الله"، ويرى أن"انعكاسات العلاقة بين الإخوان وحماس جعلت الأحزاب تتردد في رد فعلها، فالأمر فيه التباس جعل المشاركة من الأحزاب غير واضحة، إذ أبت أن تكون جزءاً من صراع داخلي بين الإخوان والحكم". ويضيف:"لو تدخلت الأحزاب بقوة لكانت حصلت شوشرة"، إلا أنه ينوه بمشاركة حزبه في التعبير عن الرأي عبر مقالات صحافية طالب فيها قادة الحزب بفك الحصار. غير أن الأمين العام لحزب"الوفد"منير فخري عبدالنور يرفض القول إن الأحزاب غابت عن الحدث، إلا أنه يقر بأن تحرك حزبه لم يكن عند مستوى مكانته على الساحة السياسية، مرجعاً ذلك إلى"الظروف التي يمر بها الحزب"، في إشارة إلى نزاع بين رئيسه الحالي محمود أباظة ورئيسه السابق نعمان جمعة.