مسرح الأحداث على الساحة الدولية اليوم يذكرنا بالوضع الملتهب الذي ساد العالم قبل اندلاع الحرب الكونية الأولى، ففي تلك الحقبة من التاريخ الإنساني كانت بريطانيا تهيمن على العالم بقوتها العسكرية الضاربة، وامتدت أذرعها القوية إلى قارات العالم، وبدأ التنافس بينها وبين الدول الكبرى آنذاك على اقتسام المستعمرات، فالمشهد كان ينتظر من يدق الجرس أولاً لتشتعل الحرب، وجاء اغتيال ولي عهد النمسا ليكون الشرارة التي كانت تنتظر من يشعلها، وهذا ما حدث عندما دقت طبول تلك الحرب المدمرة في 28 شباط فبراير 1914، عندما أعلنت النمسا الحرب على صربيا التي قتل احد رجالها ولي عهدها! ودخل العالم مرحلة أتون حرب لا تُبقي ولا تذر بعد أن انحاز كل حليف الى معسكره، فوجد العالم نفسه في خضم نيران اشتعلت في القارة الأوروبية وأحرقت الأخضر واليابس، ولم يتوقف هديرها إلا بعد أن أفنت من الجنس البشري أكثر من 40 مليون إنسان. وفي الفترة بين 1929 - 1933 واجه العالم أزمة كساد اقتصادي اجتاحته من أقصاه إلى أقصاه، انعكس أثرها السلبي على السياسة والعلاقات الدولية، وتبنت بعض دول أوروبا العنف، وأخذ الطمع في الاستيلاء على الثروات بل الدول يرفع رأسه، وبدا ذلك جلياً بانسحاب ألمانيا في 14 تشرين الأول أكتوبر 1933 بزعامة هتلر من عصبة الأمم، وادى فشلها في تحقيق السلم والأمن الدوليين الى اندلاع الحرب المدمرة الثانية في أواخر 1939، ولم ينطفئ لهيبها عام 1945 إلا بعد ان خلفت وراءها أكثر من 50 مليون قتيل، وخراباً وتدميراً لم يعرفه الجنس البشري من قبل. اليوم يعيش العالم تهديداً للسلام والأمن الدوليين اخطر بكثير مما كانت عليه حاله التي خرجت من رحمها حربان مدمرتان، فمسرح الأحداث المعاشة على أرض الواقع ينذر بشر قد اقترب، ومن يرصد الأحداث المتسارعة التي لا تخطئها العين يدرك حجم هذا الخطر المحدق! الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق خرجا من الحرب الكونية الثانية كقوتين عالميتين مهيمنتين تملكان القوة العسكرية، وان كانت أميركا تتفوق في قوتها الاقتصادية، واقتسما النفوذ في العالم، وسار سباق التسلح لصالحهما، ودشنت الرأسمالية والشيوعية الحرب الباردة بدءاً بأزمة الصواريخ في الستينات والحرب الفيتنامية، مروراً باحتلال الروس لأفغانستان، حيث حشدت أميركا العالم وفي مقدمه المسلمون طبعاً لكسر شوكة الشيوعية، وانتهاء بانهيار جدار برلين وانهيار الشيوعية وتناثر بعض أجزاء الامبراطورية السوفياتية السابقة الى دول مستقلة! كانت الضربة قاسية للاتحاد السوفياتي السابق الذي ورث يلتسن ما تبقى من حطامه، ومما زاد الطين بلة ضعف ذلك الرئيس، فزاد بلده ضعفاً على ضعف، ومع بحثه عن منقذ جاء برجل الاستخبارات بوتين الذي كان باهر الذكاء، فانقض على الجميع لينقذ بلاده من الورطة التي دخلت في نفقها المظلم، واستطاع القيصر الجديد فعلاً أن يعيد لروسيا مكانتها وقوتها وإرادتها كلاعب رئيس على الساحة الدولية، بل وفي منطقة الشرق الأوسط!! ظل رجل الكرملين القوي يراقب القطب الأوحد أميركا وهي تغرق في ظلمات أفغانستان، تذكر زمناً كانت فيه أفغانستان القشة التي قصمت ظهر بلاده، وها هو يرى خصمه اللدود يدخل المغامرة لتعلم الدروس، يرسل الصرخة تلو الصرخة كما فعلت بلاده من قبل ولا منقذ ولا مجيب!! ومن مكتبه ينظر إلى لوحة العراق الكئيبة حليفته بالأمس التي اختطفها الغول الأميركي وعاث بها وبأهلها فساداً، يرى كيف ان صقور الإدارة الأميركية يبحثون عن طوق نجاة وقد تقطعت بهم السبل، وليستكمل المشهد فإنه ينظر إلى مشهد أميركا الحزين في الشرق الأوسط وأفريقيا!! كل هذه المشاهد التي تعيشها الإمبراطورية الأميركية منحت رجل روسيا الذي قذفت به الأقدار الى الكرملين استراحة لعلاج جراح بلاده وبناء اقتصادها ودعم قوتها العسكرية ليدخل الساحة الدولية من جديد مدججاً بقوة واثبة لدور روسي جديد في الشرق الأوسط والعالم مستفيداً من الخوار الأميركي في الشرق الأوسط بل وفي العالم!! وجاءت فرصة بوتين ليستعرض عضلات قوته ضد هيمنة واشنطن الأحادية على العالم، وكانت منظومة الدفاع الصاروخية على حدود بلاده في جمهورية تشيكيا وبولندا الشرارة التي اشتعلت في صدره لينتفض لإحساسه بالخطر ويوجه انتقاداته الحادة للعم سام وسياسته على حدوده، وفي الشرق الأوسط وغيره، ويرد على القوة بالقوة، بل ان بوتين عقد العزم على شل قدرة الإدارة الأميركية لاحتكارها القرار الدولي قدر الإمكان، متبنياً استراتيجية جديدة مدروسة بدقة لتلعب بلاده دوراً مؤثراً في الشرق الأوسط يخدم مصالح روسيا وبعض دول المنطقة، خصوصاً تلك التي زارها الرئيس الروسي ووثق علاقات بلاده معها. لم يقتصر هجوم بوتين على سياسات أميركا لافراطها في استعمال للقوة لاحتلال الدول، بل انه انتقد بشدة الديموقراطية الأميركية، قائلاً ان الذين يريدون ان يلقنونا الديموقراطية لا يتعلمونها أنفسهم، ذهب بوتين إلى عمق النظام السياسي الأميركي ليوجه له لذعة من النقد بعد ان وجد الفرصة سانحة للانقضاض على الإدارة الأميركية مستفيداً من مأزقها الخانق في أفغانستانوالعراق والمنطقة برمتها، ورجل السياسة الناجح هو الذي يحدد الهدف ويعرف كيف يختار وقت تحقيقه بدقة، وقد فعل بوتين!! ذهب بوتين في منازلته لبوش إلى أبعد من هذا فنقل حربه الباردة او الساخنة إلى قاع المحيط المتجمد الشمالي الذي يكتشف للمرة الأولى في التاريخ ويختزن احتياطياً كبيراً محتملاً من النفط والغاز، وروسيا أصلاً غنية به ليزيد قوتها قوة، وهذا تحد حقيقي لأميركا وهيبتها يعيد للأذهان ذلك السباق بين العملاقين في ستينات القرن الماضي لبلوغ القمر ليبدأ السباق لغزو الفضاء. وعلى رغم ان روسيا تتفوق على أميركا في عدد الرؤوس النووية فلديها أكثر من 8 آلاف رأس، ولأميركا أكثر من سبعة آلاف، وهذا العدد من القوة التدميرية الضاربة لدى إحدى الدولتين يكفي لتدمير العالم بأسره، إلا ان بوتين عمل على تطوير صواريخ بلاده الاستراتيجية فأجرى تجارب أثبتت عصرنتها لتلك الترسانة التي تخيف بها أميركا!! المهم ان روسيا بقيادة قيصرها الجديد أخذت على عاتقها ان تشارك أميركا كلاعب رئيس على الساحة الدولية وإدارة الصراعات، وفرد بوتين أجنحة بلاده بعد أن استفاد من كل أخطاء الإدارة الاميركية، ونهض باقتصاد بلاده وحطم بعض رؤوس الفساد، واستفاد من أسعار النفط التي ارتفعت الى مستوى تاريخي لتبلغ مئة دولار، باعتبار بلاده ثاني أكبر منتج للنفط بعد السعودية، وتملك احتياطياً ضخماً منه، وهي الأولى في احتياطي وإنتاج الغاز على المستوى العالمي وتعد رئة أوروبا في الإمدادات من تلك الطاقة، التي استغل بوتين نفوذها ببراعة في تعامله مع أوروبا والغرب عموماً. ويمكن القول إن موسكووواشنطن أصبحتا اليوم وجهاً لوجه، تدخلان عصراً جديداً من التحدي، عصراً جديداً من تقاسم النفوذ في العالم، وبرزت الصين قوة مؤثرة تفرد أجنحتها في بعض القارات، خصوصاً آسيا وأفريقيا، بهدوء الناظر للمستقبل وسط تحالف يبنى خطوة خطوة مع الجارة روسيا، يبرز أثره حتى في مجلس الأمن في التلويح بالفيتو للحد من الجموح الأميركي، وبرز ذلك واضحاً في الملف النووي الإيراني. وعلى رغم ان الولاياتالمتحدةالأمريكية هي القوة الاقتصادية الأولى فإجمالي ناتجها القومي حوالي 14 تريليون دولار وموازنتها العسكرية الأضخم عالمياً أكثر من 700 بليون دولار، وعلى رغم ان موازنة الدفاع الروسية لا تتجاوز 32 بليون دولار، إلا أن المؤكد ان روسيا هي القوة القادمة فعلاً، يدعم قوتها واقتصادها مخزون ضخم من النفط والغاز في عصر تمثل فيه الطاقة القوة والنفوذ، وهو ما تفتقر إليه أميركا فاحتياطها من النفط لا يزيد على 22 بليون برميل فهي فقيرة في الطاقة متعطشة لها، ومن هنا جاء صراعها من أجلها واحتلالها للعراق وقبله أفغانستان. اذاً قراءة المشهد العالمي في حاضره هي منظر يكاد يقترب من مسرح الأحداث العالمية التي لبدت العالم بالغيوم الكثيبة والكئيبة، لينطلق لهيب الحربين العالميتين في القرن الماضي بعد اضطرابات وأحداث سياسية واقتصادية وصراعات على تقاسم النفوذ والفوز بالمستعمرات والانقضاض على الدول الضعيفة واحتلالها وانهيار امبراطوريات وبروز أخرى مثل أميركا وروسيا، وها هي اليوم تعود للتناطح بعد حرب باردة مريرة، وبعد ان برزت قوى جديدة مثل الصين والهند! ومن يدقق في المشهد بفكر مستفيض لمجريات الأحداث اليوم على الساحة الدولية، وينظر إلى الصراعات الدائرة، سيدرك ان النظام العالمي والاقتصاد العالمي في خطر، وأن الفوضى ضاربة أطنابها في المجتمع الدولي برمته، لأن أمن واستقرار الكرة الأرضية بساكنيها أصبحت تديره سلطة واحدة مهيمنة هي الإدارة الأميركية، وهذه السلطة بدأت تفقد سيطرتها على مجريات أحداث العالم المتشابكة! ومن ينظر الى لوحة المشهد العالمي يرى بأم عينيه أن أسباب الفوضى العالمية قد تحققت، فموجة كساد اقتصاد عارمة حلت بالاقتصاد الأميركي وانتقلت العدوى الى معظم الاقتصادات والبورصات الدولية، وحروب شنتها الإدارة الأميركية فانتشرت الصراعات هنا وهناك ودخل العالم في سباق تسلح وصفه الرئيس بوتين في 8 شباط فبراير الجاري أحسن وصف بقوله ان العالم يدور في دوامة سباق التسلح وان بلاده مرغمة على تطوير أسلحة جديدة. ومما يذكي هذا الصراع والمبارزة والتحدي وإشعال نار حرب كارثية قادمة، اذا لم يوقف زحفها السريع العقلاء إن وجدوا، أزمة الطاقة والصراع حولها وتحديداً في الخليج العربي صاحب الطاقة والاستراتيجية التي تصارع عليها الكبار بالأمس، وها هي اليوم تسيل لعابهم من أجل الاثنين الطاقة والاستراتيجية. إذاً الظروف توافرت ليشهد العالم بشعوبه وثرواته في المستقبل المنظور صراعات وحروباً تقودها الدول العظمى وتدور رحاها في معظم أرجائه تهدم الأمن والاستقرار وتقتل حقوق الإنسان، وتنهي الحرية وتقضي على البشر والحجر بين ليلة وضحاها، وإذا لم يتنبه الحكماء إلى هذا الشر المستطير فويل للمجتمع الدولي من خطر اقترب! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية