تختزن ذاكرتنا وما يعيشه جيل الشباب الآن كمّاً من التبجيل المفعم بالحب لفكرة العلم: نذكر كيف كنا نهديه تحية الصباح وننشد له بنبرة سامية تبشر بمستقبل كنا نحسبه زاهرا. في العهد الملكي كان النشيد للملك فيصل: دم يا كريم النسب/ يا شريف الحسب وضع موسيقاه ضابط بريطاني، وكان علم المملكة العراقية التي تأسست في العام 1921 ملوناً بالاسود والاحمر والابيض، تتوسطه نجمتان سباعيتان ترمزان الى عدد محافظاتالعراق آنذاك. وفي الثلاثينات حتى الخمسينات، وهو تاريخ من الاحتجاج والانتفاضات ضد الاحتلال، تحول الهتاف الى: موطني موطني/ الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك ثم انقضى زمن الملوك بثورة الرابع عشر من تموز يوليو 1958 ليأتي الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان مسكونا بهمّ العراق وحبه، مولعا بحضارته القديمة، في ذروة الاجتياحات الناصرية للفكر العربي وتهميش الهويات الوطنية، فكان الشعار من تصميم النحّات جواد سليم والسلام الجمهوري من تأليف الموسيقي لويس زنبقة، اما النشيد الوطني فلحنه الموسيقار فريد الله ويردي. والثلاثة عراقيون قدموا نتاجا باهرا على قدر كبير من الايحاء بالعزة للوطن. وذاعت اناشيد تتغنى بميلاد دولة وعهد جديدين: يا موطني يا نجمة بيضاء في صدر الزمان يا قبلة لكل حر ثائر يأبى الهوان ومرت سنون قصار أخذت معها احلام الثورة والثوار فكان زلزال العام 1963 بانقلاب الثامن من شباط فبراير ووصول حزب البعث الى الحكم، ثم تلاه عام التصحيح الذي قاده عبد السلام عارف فأعلن البشارة بعقد ميثاق الوحدة الثلاثية بين العراق وكل من سورية ومصر. وبهذا تحولت دولة العراق الى نجمة ثالثة في علم الجمهورية العربية المتحدة التي لم تعد متحدة الا في الشكل. واصبح نشيد العراق الوطني كما هو في مصر: والله زمن يا سلاحي/ اشتقت لك في كفاحي ولم ينته عقد الستينات حتى عاد البعث الى السلطة ولكن بثوب جديد فضفاض وشعارات عن الجبهة الوطنية، ليغطي أو يصادر فترة غنية تفاعلت خلالها القوى السياسية وتحركت بحرية إبان حكم الرئيس عبد الرحمن عارف ورئيس وزرائه عبد الرحمن البزاز الذي كان سياسياً قديراً وكفؤاً لمنصبه وحاول الانفتاح على الاحزاب كافة. وما دام الحديث عن العلََم فلا مجال لتتبع مسيرة البعث الا بذكر وقائعها الدامية. فما ان انتهت حربها ضد ايران حتى باشر صدام حسين بغزو الكويت ثم انكفأ عنها بعد حرب الخليج الاولى في 1991. وفي محاولة منه لاقناع الناس بان الله معه، كتب بخطه على علم البلاد اسم الجلالة. ولأنه بالتأكيد لم يكن يتوقع اي نزاع في المستقبل بشأن ما يتخذه من قرارات، فقد حسب حكمه مخلداً، وعندما قال اثناء محاكمته: لن يستطيع احد ان يغير هذا العلم، كان يعرف أي مأزق وقع فيه خلفاؤه، وجلهم من الاحزاب الاسلامية، فلم يجرأوا على اتخاذ قرار يرمز الى معنى التحرر من حكم مستبد ظالم وتوقفوا فقط عند قدسية الكلمات: كيف يغيرون راية كتب عليها"الله اكبر"، وتناسوا دروس تاريخنا الاسلامي: ألم ترفع المصاحف في معركة صفين لتحقيق مصالح سياسية وميدانية؟ أولم يستغل كتاب الله لتثبيت حكام جائرين؟ وهل نسي المؤمنون قرار صدام بان يكتب القرآن بدمه مستهزئا بكل مباحث الفقهاء عن الطهارة لا يمسه الا المطهرون. ان تلاعب الحاكم بالعلم امر لا يمكن اقراره لتعلقه بسيادة البلد ومكانته الدولية. فإذا كنا فعلا نتحدث عن عراق جديد وقيادة مختلفة لا تتسم بالفردية وتحترم شعبها وتسعى حقا الى التغيير الايجابي فلماذا كل هذا التردد في مسألة تكتسب شرعية شعبية؟ فمن حق الكرد كمواطنين عراقيين، قبل ان يكونوا اصحاب سلطة بموجب الدستورأو الواقع، ان يرفضوا علما رفع فوق اشلائهم في حلبجة ومواقع الانفال. وتبقى ذاكرة اهل الجنوب والفرات الاوسط مثقلة بصور الموت سحقا تحت الدبابات وفي ظل العلم نفسه."الله اكبر"كانت تعني في عهد صدام الإستقواء على الناس، تماما كما يطلقها اليوم عاليا من يذبحون العراقيين الابرياء، ولا بد ان يكون لها معان انسانية وان تتوقف المتاجرة بها احتراما للذات الإلهية. فالله باقٍٍ في قلوب المؤمنين ورايات الاحزاب والجماعات، والحكام الى زوال. ان التردد الطويل في معالجة مأزق العلم تسبب في اتخاذ قرار مبتور باعتماد علم جديد مؤقت بلا نجوم والوانه الاحمر والاسود وبينهما ابيض وقد كتب عليه الله اكبر، ولكن ليس بخط صدام. وهذا التعجل بعد المراوحة الطويلة اعتبر خطوة ضرورية، جاءت في سياق التحضير لمؤتمر البرلمانيين العرب العاشر الذي تقرر عقده في أربيل عاصمة اقليم كردستان في الشهر المقبل، وضرورة ان يستظل براية عراقية وليس بعلم الاقليم الكردي. وقد رفع العلم الجديد في الخامس من شباط فبراير في جميع انحاء العراق. والتغيير هنا يذكرنا بالتعجل الذي وسم قرار مجلس الحكم في السادس والعشرين من نيسان ابريل 2004 حين فوجىء الناس بتغيير العلم دون ان تُترك لهم مدة كافية للاطلاع على النماذج المتنافسة وبيان رأيهم، فكان الاخراج باهتاً أثّر على مضمون العلم وما رمى اليه مصممه في الجمع بين الهلال الاسلامي وبياض السلام والخط الاصفر اشارة للشراكة الكردية في الوطن ثم الخطان الازرقان لدجلة والفرات، وبشكل عام محاولته الخروج من دائرة المعاني القديمة التي تمثلت في قصيدة الشاعر صفي الدين الحلي: سلي الرماح العوالي عن معالينا واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا والبيت المقصود يقع فيها: بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا لقد تعب الشعب العراقي من ثقافة الحرب وربطها الابدي بتاريخنا. فالحضارات لم تتأسس بالحروب فقط - كما يزعم البعض- وانما بالعلوم والفنون والآداب، ولا بد من ان يرمز العلم الى حضارة البلاد او الى محصولها المؤثر في حياة ابنائها أو اي رمز معتبر شعبياً ولا يشكل حساسية لاحد مكوناته. ولنترك سود الوقائع لمن عايشوها ونحرر الناس من لبس السواد وتكفينا أنهار الدماء التي اهدرت في عهد صدام وبعده عن التغزل بسيوف أسلافنا التي لا نعرف عنها الا ما لها ونجهل ما عليها. * كاتبة عراقية