دائرة يرسم ماريو فارغاس يوسا خمسة وجوه لحواء في روايته"الفتاة السيئة"الصادرة بالإنكليزية عن دار فابر وفابر - بريطانيا. يؤمن الكاتب البيروفي أن افضل طريقة لكتابة القصص هي البدء بالتاريخ، ويتوقف عند المراحل المختلفة التي تعيشها شخصياته بدءاً بالخمسينات. تظهر فتاته أولاً في حي ميرافلوريس الميسور في ليما، عاصمة بيرو، حيث يمضي المراهقون صيفاً متخماً باللهو. تأسر ريكاردو بجاذبيتها ورقصها المثير، لكنها لا تلبث ان تختفي بعد ان يكتشف أنها ليست"ليلي من تشيلي"كما ادعت، وإنها قد تنتمي الى الطبقة الفقيرة. يلتقي بها بعد عقد في باريس حيث يعمل مترجماً في يونيسكو، وإذا بها الرفيقة أرليت المتجهة الى كوبا للتدريب مع الثوار. تظهر بعد ذلك زوجة راقية لديبلوماسي فرنسي فزوجة لرجل أعمال إنكليزي محتال، فعشيقة رجل عصابات ياباني يعاملها كعبدة. في كل هذه التحولات يخلص ريكاردو لسحرها، ويصف جسدها وعذاب هاجسه الجنسي بها بعد ان سمحت له بمشاركتها السرير وبقيت سلبية تتقبل طقوسه بلا تشجيع أو امتنان. يختار الكاتب البيروفي امرأة باردة، كاذبة، سارقة موضوعا للحب القاتم الذي يبقي ريكاردو المحموم برغبته عازبا الى ان تلجأ إليه بعد زوال الصبا والجمال. يسحق الجيش الثوار، ويرعى ريكاردو هواه طوال عمره، أما معذبته فينعطف إيمانها من الثورة الى المادة."المال هو السعادة الوحيدة التي تستطيع لمسها"، تقول، في حين يستبدل حبيبها الكلمة الأولى في عبارتها باسمها. يحس بالذنب للامبالاته الوطنية حتى عندما يصل الى باريس في الستينات ويجد طلابها يستعدون لقلب العالم على رأسه. جنته في اثنتين: باريس والفتاة السيئة، ولئن حصل على الأولى بقيت الثانية سراباً مضنياً الى ان استدارت حياتها وامتلكها حطاماً. يعجز يوسا عن مقاومة الواقعية السحرية التي تجاور الواقعية وتفشل في نقل جاذبية الفتاة الى القارئ. تدغدغ هذه الخيال الذكوري بالقول:"أنا كلبتك، أنا عاهرتك"، وتمنحه أسعد ليالي حياته على رغم برودتها. يشبه البطل الكاتب في انبهاره بباريس وان اختلف عنه في الالتزام السياسي. رشح يوسا نفسه لرئاسة الجمهورية في بلاده في 1990، لكن خصومه شددوا على عيشه الطويل في الخارج ففاز خصمه الياباني الأصل البرتو فوجيموري. أدار ريكاردو ظهره لبلاده ووجد وجهه في فرنسا، لكن شيئاً من وطنه بقي يعرش على جدران القلب. عندما يعود الى ليما يحس بأنه بات"إنساناً بلا جذور، شبحاً. لم أعد بيروفيا لأنني أشعر بالغربة هنا أكثر من باريس. وهل يرد الكاتب على غريمه السياسي بجعل رجل العصابات الياباني الشرير الأكبر في الرواية؟ يقول بطله انه لم يلتق أحداً من الجالية اليابانية في بيرو وان علم انها كبيرة. يلغي بقلمه الخصم الذي قضى على طموحه السياسي في حملة برز فيها العرق ببشاعة. شعر فائض جعل بنجامين ماركوفيتس حياة اللورد بايرون رواية، صدر الجزء الثاني منها عن دار فابر وفابر - بريطانيا. يركز الكاتب الأميركي الذي يعيش في لندن على زوجة الشاعر الإنكليزي أنابيلا التي اعتقدت بأن ارتباطها به سيهبها"احتمالات لن أستطيع ان أطمح إليها من دونه". كانت ابنة بارون ريفي هربت من حياتها المملة الى شاعر سيئ السمعة أوحى إليها بالإثارة، لكنه عذبها بقسوته ولا مبالاته وعلاقته المبهمة بأخته غير الشقيقة أوغستا لي التي تردد انها كانت عشيقته. بحث ماركوفيتس طويلاً في حياة بايرون، وكتب رواية جميلة قاتمة بأسلوب قديم مرن برزت فيه المفارقة وأقوال حقيقية للشخصيات. يبرئ الشاعر من تهمة الشر اللاصقة به، ويظهره كئيباً، تعيساً، منغمساً في ذاته ومدمناً على الكحول. لقب زوجته البارعة في الرياضيات بپ"أميرة متوازي الأضلاع"، ثم ألمح الى أنها"ساحرة عجوز في الحي تصيبني بالعين". لم تكن أنابيلا ضحية بريئة، ويوحي الكاتب بأنها كانت خبيثة وانتقامية وطامعة بالشهرة، وبأن علاقتها بالشاعر أكسبتها قسوة حولت معها أوغستا الى عبدة لها. ولئن بقيت علاقة بايرون بأخته لغزاً تنتهي الرواية بكشف آخر. لم تشعر أنابيلا بالغيرة من أوغستا بل من بايرون لأنها حلمت بشقيقته طوال حياتها. أسرت حياة بايرون كتّاباً كثراً في القرن العشرين، ويكتب ماركوفيتس اليوم الجزء الأخير من ثلاثيته عن الشاعر الذي توفي بالحمى في ربيع 1824عن ست وثلاثين سنة بعدما قاتل الأتراك دفاعاً عن استقلال اليونان. انتقل ماركوفيتس من أميركا الى بريطانيا عندما كان في الرابعة عشرة، وورث عن والده مدرس القانون شغفاً بالحقبة الفيكتورية وشعرها. امتهن لعب كرة السلة في ألمانيا ثم كتب"أوراق سايم"عن أكاديمي وعالم فاشلين، وهو يدرس في جامعة اكسفورد، اتبعها بپ"أي جانب من الشتاء"التي خلت من العقدة وتخففت من نصف حجم الرواية الأولى ورسخت الإيمان بموهبته. كتب عن أناس عاديين تخلو حياتهم من الأحداث وتشبه حياة معظم القراء لكنها تحتفظ باهتمامهم مع ذلك. تناولت روايته الثالثة"انتحال شخصية"جون بوليدوري، طبيب بايرون، الذي شابهه شكلاً فظنته الايزا الشابة الشاعر وأحبته. يعاني من الديون والفاقة بعد عز ويدعي انه مؤلف"مصاص الدماء"عن بايرون الذي يتصدر المبيع من دون أن يعود عليه بنفع مادي. ضمن ماركوفيتس"انتحال شخصية"لفتات ما بعد حداثية، وتناول أساساً الفشل ومص الدماء، أي سحب الحياة من الآخرين، وأنهاها باعتقاد بوليدوري ان مشكلته والايزا تكمن في"الوحدة والشعر الفائض". إطلالة على الجحيم كتب مايكل لاوري كتاباً كبيراً واحداً ووقع ضحيته. أمضى عقداً يكتب"تحت البركان"عن ديبلوماسي إنكليزي مدمن على الكحول في مكسيكو يطل على الجحيم كلما امتدت يده الراجفة الى الكأس. بعد صدور الرواية في 1947 شكا لصديق ان كتابه الأشهر"انطلق مثل مئات الصواريخ دفعة واحدة، ولا أزال أتفادى الشرارات والعيدان". حاول تقييد نفسه في العقد الأخير من حياته لكنه استهل كتباً عدة ولم يبلغ الصفحة الأخيرة. أرملته مارجيري أنهت روايتي"قارب تشريني الى غابريولا"وپ"مظلم كالقبر الذي يرقد فيه صديقي"، وثمة مقاطع من هاتين في"الرحلة التي لا تنتهي"الصادر عن"ان واي ار بي بوكس"إضافة الى قصص وقصائد ورسائل للكاتب الإنكليزي الذي عاش في كندا وتوفي في 1957 عن ثمان وأربعين سنة. استعاد لاوري في أعماله غير المكتملة كاتباً ابتلي بنجاح كتاب واحد:"قتله كتابه والقوى الشريرة التي أيقظها". أدمن على الكحول مثل بطل"تحت البركان"وساهمت هذه مع خياناته في فشل زواجه الأول. يصف في روايته القصيرة"ممر الغابة الى الربيع"علاقته بزوجته الثانية التي أشرفت على المثالية أحياناً وانحطت أحياناً أخرى الى منافسة على الشرب والصراخ. كان عليه أن يثبت ذراعه بمنشفة يربطها حول رقبته لكي يستطيع أن يحمل الكأس بيده المرتعشة، وابتلي بالعوز وأوجاع ظهره المكسور والخوف من السفلس والسرطان. في 1950 عجز عن الاستماع الى برنامج عنه في الإذاعة الكندية لافتقار كوخ الصيد الذي عاش فيه الى الكهرباء. امتلك مفردات لافتة ومقدرة فائقة على الوصف، وأظهرت رسائله المرحة الذكية كرماً لم يطحه الفقر. ذلك الماضي يعود برنارد شلينك الى الأسئلة التي تزعج الوجدان الألماني في رواية"العودة"الصادرة بالإنكليزية عن دار وايدنفلد، بريطانيا. يتابع رحلة فتى حتى الرجولة وبحثه عن تاريخ الأسرة في الحرب والسلم. ينشأ بيتر السويسري مع جديه اللذين يعملان في الطباعة ويعوضان بالحب الكبير عن فقدانه والده في الحرب العالمية الثانية. يهجس الفتى بفكرة العودة عندما يقرأ مقاطع من رواية عن جندي ألماني هرب من معسكر روسي للأسرى، وواجه مخاطر كثيرة في طريقه الى وطنه فوجد زوجته متزوجة من آخر لظنها انه قتل. يتمحص الفتى حتى بلوغه الحقائق عن والده، ويوازي بين فكرة رجوعه وعودة ألمانيا الى نفسها بعد التوحيد. يبقى جده مخلصاً لأجداده الألمان، ويتأثر بشوقهم الى وطنهم، كما يفعل هو، خصوصاً عندما يواجه الجنود الاتهام والمحاسبة لدى عودتهم. لا يتساءل بيتر المثقف عما أوصل الأسرى الى الاتحاد السوفياتي أصلاً، وعما كانوا يفعلونه في حصار لينينغراد. يتجاهل معاناة السوفيات أثناء الحصار الفاشل، ويكتفي وعيه الانتقائي بالإشارة الى المصاعب التي واجهها هؤلاء. ظهرت الذاكرة الانتقائية في رواية شلينك الأكثر مبيعاً"القارئ"التي روت علاقة فتى بامرأة أكبر منه سناً عملت حارسة معسكر يهودي في الحرب. تواجه هانا المحكمة لرفضها فتح باب كنيسة سجنت فيها مئات النساء بعد اندلاع حريق فيها، واختيارها عمداً المريضات والضعيفات بينهن لإرسالهن الى غرف الإعدام بالغاز في اوشفيتز. تؤمن هانا بأنها قامت بواجبها على رغم مقتل السجينات، وتجعل المسؤولية عامة عندما تسأل القاضي:"ولكن ما كنت ستفعله لو كنت مكاني؟". شخصيات"العودة"اقل شفقة على الذات من تلك في"القارئ"، وأكثر وعياً بتأثير الأكاذيب والتحريف على حياتها. يعثر بيتر على والده، أستاذ القانون الشهير في أميركا، الذي يرفض ابنه على رغم حاجة هذا، وربما بسببها، الى اقتفاء تاريخ الأب ومحاولة احتوائه. وكيف يفعل ذلك عندما يهدد هذا التاريخ أستاذ القانون الذي بات مسناً محترماً وجد منذ زمن طريقة ناجعة لنسيان الماضي والوحش فيه؟