عميقاً ما يكفي "كانت حياته اجمل ما في عمله" قال بول غوغان لكنها كانت اذا استثنينا الموت حياة عادية أنتجت شعراً غير عادي. توفيت امه وهو في الخامسة وشقيقته وهو في الخامسة عشرة ثم توفي ابنه في الثامنة. "الى قبر اناتول" كتاب صدر بترجمة انكليزية عن دار كاركانيت التي تأمل في إغراء القراء لا النقاد وحدهم، لكن الشعراء الذين احبوا ستيفان مالارميه واحترموا مغامرته الأدبية لم يستطيعوا ان ينقلوا العدوى الى القراء. سخرت الصحافة في حياته من غموض شعره وصعوبته، لكنه وجد العزاء في جمهور صغير حماسي عوّض بعض الشيء عن خيباته. اشتهر مالارميه برثائه الذي سعى الى تحرير الأموات وقيامتهم بالشعر مستوحياً اورفيوس الذي ذهب الى الموت وعاد. تخلى عن كاثوليكيته لكنه شاء ان يمنح شارل بودلير وإدغار الن بو وتيوفيل غوتييه وبول فرلين حياة روحية بعد الموت. رحيل طفله كان حقيقة موجعة لم يستطع معها تكرار دور الشاعر بالسهولة نفسها. تصارع الكاتب والوالد فيه وسط خوفه من ان يكون اورث طفله خللاً في الدم وتسبب بوفاته. قبِل موته كشاعر وقاومه كأب، وفق باتريك ماكغينيس مترجم القصائد، فقوّض الصراع كتابته وحداده معاً. ليست قصائد بالضبط بل شذرات شعرية كتبها على قصاصات ولم ينهها، بل لم يبدأها وفق المترجم. يعلن مالارميه في اول الكتاب "الغضب على ما لا يتشكل" لوقوفه بين العاطفة الخام والغنائية الواثقة فتنتقل شذراته بين الانفعال والتململ. وتزيد زوجته الأمر صعوبة بمزيج من الحداد المر ورفض التصديق، كأن عدم قبولها موت طفلها يعني انه لا يزال حياً. انتمى ستيفان مالارميه الى عائلة بورجوازية توارثت الوظيفة الحكومية، ورد على موت والدته وشقيقته بالتمرد الذي عوقب عليه بالطرد من المدرسة وهو في الثالثة عشرة. قصد لندن مع مربية ألمانية ليدرس الإنكليزية وعاد الى بلاده ليتزوج ماري ويكتب عن مهنته في وثيقة الزواج "فنان". حنّ الى باريس وعانى من الأرق والمرض والهموم المالية لشغفه بتأثيث بيته بما يفوق دخله. اقترب في عزلته من الانهيار والجنون، وبعد ليلة من التساؤلات الفكرية والروحية خرج منتصراً عندما قرر ان الخيال الإنساني هو مركز الكون في غياب الدين. كان الأقل بوهيمية بين "الشعراء الملعونين" وقبل القيام بالمهمات المنزلية، وحظي بصداقات متينة مع الشعراء والفنانين الذين التقاهم في صالونه كل ثلثاء حتى موته. "هبطت عميقاً ما يكفي في الفراغ وأستطيع ان أتكلم بثقة" قال. "الجمال وحده موجود، وهناك تعبير كامل واحد عنه، الشعر. كل ما عدا ذلك كذب باستثناء الحب للذين يعيشون حياة الجسد، والصداقة للذين يحبون العقل". حلم بتأليف كتاب الكتب الذي يحوي الخيمياء والطقوس والفلسفة او "تاريخ الإنسان" كما سماه، ولم تبق منه إلا ملاحظات وشذرات. لم يكمل الدراما الغنائية "هيرودياد" ولكن بقي الكثير من القصائد النثرية التي ابتكرها وتناول فيها الشعر وفنون الرقص والمسرح والرسم والموضة. حلم بغزارة فكتور هوغو وتجديد شارل بودلير لكنه توفي في اواخر القرن التاسع عشر عن ستة وخمسين عاماً. كان اعلن وفاته عندما كان في الثانية والعشرين وقال انه سيعود الى الحياة في كتاباته الرؤيوية. بعد قرن على وفاته: لا يعود فقط بل يعتبر احد اكبر رواد الأدب الحديث. كانت الحياة تبدأ تنقل ماريو فارغاس يوسا بين البيرو وفرنساوبريطانيا ليكتب عن امرأة توفيت في منتصف القرن التاسع عشر. اكتشفها عندما كان طالباً ووجدها شجاعة، جريئة، متمردة، وحفظها في قلبه. في "الطريق الى الجنة" الصادر في بريطانيا عن دار فابر يقول ان التاريخ حرم فلورا تريستان مكانها بين المفكرين السياسيين، وأن كارل ماركس وفردريك انغلز قد يكونان تواطآ كذلك. دعت الى قيام اتحاد عمالي عالمي قبل ماركس بأربعة اعوام، وقرأ انغلز كتبها وقد يكون سرق بعض افكارها من دون ان يعترف بفضلها. كانت امرأة، وغير متعلمة، وربما منعتها كبرياء الرجولة من الإشارة إليها، يظن يوسا، علماً ان ماركس دافع عنها في الصحف. كانت فلورا تريستان 1803- 1844 جدة بول غوغان واشتركت معه في الريادة والتمرد والتعاسة. لم يطلب والدها الارستقراطي الإسباني - البيروفي الإذن من ملك اسبانيا للزواج مدنياً من والدتها الفرنسية فاعتبرت غير شرعية على رغم زواج والديها الكنسي. توفي والدها وهي في الثالثة فصادرت الحكومة الفرنسية منزله باعتباره عدواً، وكان على فلورا ان تنتقل بين سلسلة من الأعمال اليدوية. عندما كانت في الخامسة عشرة اعجب بها صاحب المطبعة التي عملت فيها فدفعتها والدتها الى الزواج من ابن الطبقة البورجوازية. قامر وشرب وضربها فهربت وهي حامل مع طفليها، ثم سافرت الى لندن حيث عملت مرافقة للسيدات. كانت الملكية ألغت الطلاق الذي اقرته الثورة فأبقت مكان اقامتها سراً لكي لا يأخذ زوجها الأطفال منها. سافرت الى البيرو للتعرف الى أسرة والدها فتغيرت حياتها. شاهدت معاملة العبيد الوحشية في جزر الرأس الأخضر، وبدأت تتماهى مع العمال المظلومين. رأت البيروفيات يدرن شؤونهن بالاستقلال عن الرجال، وعندما اندلعت حرب اهلية في اريكيب، مسقط رأس يوسا، طبخت النساء للجنود وقمن بالتنظيف ثم قاتلن بدلاً من الجنود الجرحى، كن اكثر حرية من الأوروبيات فتسيست فلورا وأُلهمت وعادت الى فرنسا بفكرة واضحة: تغيير العالم. كتبت منشوراً عن ضرورة انشاء ملاذات للنساء والفتيات وبدأت تشتهر في باريس. توفي ابنها البكر عن عشرة اعوام، وربح زوجها حضانة ابنه وابنته لكنه اخذ ينام في سرير الأخيرة فاتهمته هذه باغتصابها في رسالة الى امها. مع ذلك ساعدت والدة فلورا زوجها وخجلت منها. كانت امرأة متزوجة تعيش وحدها وتعيل نفسها من الكتابة في مجتمع رفض اكثر المتنورين فيه مساواة المرأة بالرجل. المصلحان الاجتماعيان شارل فورييه وهنري سان - سيمون اهتما بتحسين وضع العمال وتجاهلا حقوق المرأة السياسية. المفكر التقدمي بيير برودون رأى "الحلم بتحرير المرأة مضراً وأحمق ... حرية النساء وسعادتهن تكمن فقط في الزواج والأمومة والمشاغل المنزلية والإخلاص للزوج والعفة والهدوء". جان جاك روسو، احد اهم فلاسفة التنوير، قال ان النساء خلقن ليكن تابعات للرجل وواجبهن ان يكنّ لطيفات ومطيعات. لكن حياة فلورا شحنتها وجعلت الخاص عاماً. في "اتحاد العمال" قالت: "أطالب بحقوق النساء لأنني مقتنعة ان مشكلات العالم تنبع من الإهمال والاحتقار اللذين عوملت بهما حقوقها الطبيعية والأساسية". صدمتها العودة الى اليمين، وبدا ان المرأة لا تزال تعيش في القرون الوسطى على رغم مشاركتها في الثورة. تثقفت بقراءة الإنجيل ومؤلفات الإنكليزية ماري وولستونكرافت التي نشرت "الدفاع عن حقوق النساء" في 1792. كانت تستعد لنشر "رحلات امرأة منبوذة" عندما أطلق زوجها الرصاص عليها. استقرت رصاصة بين القلب والرئتين فتركت هناك، لكن حظ فلورا بدأ يتغير. كانت الحادث افضل اعلان لمنشورها الذي بات الأفضل مبيعاً، ومنحت الطلاق بعد الحكم على زوجها بالأشغال الشاقة عشرين عاماً. باتت ميسورة شهيرة، وبعد "نزهات في لندن" الذي تناول الطبقة العاملة البريطانية رفض الناشرون "اتحاد العمال" فأصدرته بنفسها. جالت فرنسا لتحصل على التأييد لحركة العمال العالمية وجاءها الموت بالحمى عن واحد وأربعين عاماً اثناء طوافها. كانت الحياة بدأت لتوها تدير وجهها المشرق. بلا قلب الضجة التي أثارها جوناثان فرانزن بروايته "التصحيحات" لم تمدح فقط. نورمان ميلر وجدها "مليئة اكثر مما يجب باللغة كما ان الأثرياء الجدد مليئون اكثر مما يجب بالمال ... كأنه يقدم لنا خبرة بشرية اكثر مما يتقن، وهذا واضح في المقاطع الجاهزة الفوضوية عن المطاعم المتخصصة او سفن الرحلات الضخمة او ليتوانيا المعاصرة". ظهرت الرواية الأميركية "المفكرة" في السبعينات، وازدهرت في السنوات الماضية مع فرانزن وجفري يوجينيدس ووليم غيبسون وريتشارد باورز الذين تصلح رواياتهم الكبيرة كموسوعات ايضاً. في روايته "تنويعات الجرثومة الذهبية" يجد باورز رابطاً يزيد فهمنا الطبيعة البشرية بين نوتات باخ الأربعة في "تنويعات غولدبرغ" والذرات الأربعة في الحمض النووي والحروف الأربعة في كلمة "الله" في العبرية. روايته الأخيرة "زمن غنائنا" تتناول الموسيقى الكلاسيكية وأحداث الشغب العنصرية والزمن عند اينستاين. رواية يوجينيدس الأخيرة "ميدلسكس" ترى التشابه بين فكرة القدماء والمعاصرين عن المصير في الوقت الذي تتناول علم الجينات وصناعة السيارات. لا بطل تقليدياً في هذه الروايات يستطيع القارئ ان يتماهى معه، فالمفاهيم المجردة تواكبها لغة نائية تفرح قلب المؤلف لا القارئ. لعبة التواصل تنحصر بالكاتب وحده بدلاً من ان تشغل القارئ وتتجه نحو العالم الذي يصبح فهمه "تكنولوجياً". لغة دون ويليلو باردة كلغة الكومبيوتر وفي "ضجة بيضاء" تقول احدى شخصياته: "لست حاذقاً كثيراً لكنني اعرف كيف افصل الأشياء وأصنفها. نستطيع ان نحلل وضع الجسم، الأكل، الشرب وحتى التنفس. كيف نفهم العالم إذا لم نفعل ذلك؟ هذه هي طريقتي في النظر إليه". لماذا اصبح الأدب الأميركي الذي بدأ يطغي منذ نصف قرن "شاحباً ومزعجاً" وفق ناقد بريطاني؟ وسط عقدة السيطرة العامة وبحث الكتّاب الجدد عن صوت مختلف مميّز، يتجنب هؤلاء البناء الروائي من شخصية وعقدة وموضوع ونهاية، ويغرفون من اللغة والعلم فيفقدون البساطة الجميلة. اهتم الكتّاب الفرنسيون بالأسلوب خصوصاً بعد غوستاف فلوبير 1821 - 1880 الذي نقل عدوى "المرض بالحداثة" الى من اتى بعده. "الأسلوب هو الإنسان" قال الفرنسيون، لكن الأميركيين يفتحون ابعاداً جديدة ويصيبون اوروبا بالعدوى منذ نصف قرن. البريطانيان مارتن آميس وسلمان رشدي ذهبا الى المصدر وعاشا في اميركا لينتجا ادباً اميركياً، وفرنسا ترى غزو الثقافة الأميركية شراً. لكن هوس اللغة والأسلوب يسحب القلب من الرواية الأميركية ويفقدها جاذبيتها. او على الأقل يبدأ بذلك.