اتسمت ردود أفعال إسلام آباد ونيودلهي حيال أحداث العنف التي ألقت بظلالها عليهما خلال السنوات الثماني المنقضية بميل الى التصعيد تفجر أزمات حادة بين الجارتين النوويتين كادت أن تجرهما إلى المواجهة العسكرية، بدءاً بأحداث البرلمان الهندي في العام 2001، ثم حادث قطار نيودلهي عام 2004، ومن بعد ذلك تفجير السفارة الهندية في كابول خلال شهر تموز يوليو من السنة الحالية وصولاً الى الأحداث الأخيرة التي ضربت مدينة بومباي العاصمة المالية للهند يوم 26 تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وبغير عناء يلحظ المتتبع لتلك الأحداث الإرهابية أن إستراتيجيات إدارة الجانبين الهنديوالباكستاني للأزمات الناجمة عن تلك العملية وسابقاتها كانت متشابهة إلى حد كبير على رغم تغير الظروف التي وقعت في سياقها تلك الأحداث وتبدل الحكومات التي عاصرتها في كلا البلدين. فلقد اكتست سياجاً من التربص واستحضار سوء النية وانعدام الثقة المتبادلة بين الجانبين، على نحو ما تجلى في إسراع الجانب المعتدى عليه، وهو الهندي غالباً، بتوجيه الاتهامات إلى الجانب الباكستاني وتوعده بالويل والثبور، وتجميد أية خطوات تتخذ على صعيد التقارب معه. ففي أحداث بومباي الأخيرة على سبيل المثال، هرعت نيودلهي إلى تحميل إسلام آباد المسؤولية حتى قبل أن تبدأ التحقيقات، وبعد أن أجلت محادثات السلام مع باكستان والتي كان مقرراً استئنافها في الأسبوع الأول من شهر كانون الأول ديسمبر الجاري في إسلام آباد، اعتبرت الحكومة الهندية أن الهجمات تشكل انتكاسة خطرة لعملية تطبيع العلاقات مع باكستان ولإجراءات تعزيز الثقة المتبادلة معها والتي انطلقت عام 2004، واتبعت ذلك بإعلان رفع درجة تأهبها الأمني إلى مستوى حال الحرب فيما كثفت البحرية الهندية دورياتها في المياه الإقليمية المحاذية لشواطئ باكستان. وبعد تأكيد نائب وزير الداخلية الهندية أن جميع منفذي هجمات بومباي باكستانيو الأصل، استدعت وزارة الخارجية الهندية السفير الباكستاني في نيودلهي وقدمت له احتجاجاً رسمياً على إخفاق بلاده في القضاء على الإرهاب الذي ينطلق من أراضيها، وطالبت نيودلهي إسلام آباد باعتماد تحرك قوي ضد العناصر المسؤولة عن الهجمات أياً تكن، وفي مقدمها جماعة"عسكر الطيبة"التي تقاتل القوات الهندية في إقليم كشمير المتنازع عليه بين البلدين. من جانبه، وبعد أن نفي تلك الاتهامات هرع الطرف الباكستاني نحو رفض نبرة التهديد الهندية، كما عدل عن إرسال مدير جهاز استخباراته إلى الهند للمساهمة في كشف ملابسات الحادث مكتفياً بإيفاد ممثل عن الجهاز، كما أنهى وزير الخارجية الباكستاني زيارة كان يقوم بها للهند عند بدء الهجمات، وطالب نظامها بعدم تسييس القضية في الوقت الذي جددت الحكومة الباكستانية رفضها تسليم لائحة من عشرين مطلوبا كانت الهند قدمتها للمرة الأولى في أعقاب الهجوم على البرلمان الهندي في كانون الأول عام 2001 والذي حمّلت الهند مسؤوليته لمتشددين متمركزين في باكستان، التي اشترطت لتسليمهم توافر أدلة دامغة تدينهم، هذا في الوقت الذي لا توجد بين البلدين معاهدة لتبادل معتقلين أو مجرمين. كذلك، هددت إسلام آباد بوقف دورها وتجميده في الحرب على الإرهاب، وأبدت استعدادها لمواجهة أية تداعيات، لتبدو الجارتان النوويتان وقد اقتربتا من شفير مواجهة عسكرية رابعة. ولعل مثل هذا التشنج والتصعيد المتسارع بين الجانبين يعكس مدى تدهور الثقة المتبادلة بينهما على خلفية ثقافة الصراع التي كرسها النزاع الاجتماعي الممتد بين بلديهما منذ العام 1947 وحتى اليوم، والذي لم يشهد تسوية حقيقية تخمد جذوته، حيث يكتفي أطرافه بإدارته بدلاً من تسويته، وهو ما حال دون تجذر ثقافة السلام والحوار بينهما. وتشي أحداث بومباي وسابقاتها فضلاً عما تبعها من ردود أفعال الطرفين حيال تداعياتها، بأن إجراءات بناء الثقة بين باكستانوالهند، والتي طالما أبدت الأخيرة إصرارها على المضي فيها، كشرط وتوطئة لتدشين عملية السلام بين الجانبين، لم ترق إلى المستوى المطلوب كما لم تؤت أكلها بعد، إذ لو كانت كذلك ما تعثرت عملية السلام بينهما على هذا النحو وما ظل الطرفان في حالة استعداد دائم لتصعيد التوترات بينهما إلى حد التهديد بالعودة إلى زمن المواجهات العسكرية، وما تردد الطرفان في إبرام معاهدة أو اتفاق يجهض أية توترات في مستهلها من خلال ضمان تبادل تسليم المتورطين في أية عمليات إرهابية أو محاكمتهم، كما يضع أسساً لتعاون جاد وبناء في مجال مكافحة الإرهاب، بدلاً من التسرع في تبادل الاتهامات من دون تحقيق أو تقصٍ للحقائق مثلما فعلت نيودلهي مراراً على نحو ما اعتبر خرقاً من جانب حكومة نيودلهي لقرارات اللجنة المشتركة لمكافحة الإرهاب المشكلة بين البلدين، والتي أوصت في عام 2006 بضرورة عدم اتهام بلد لآخر بالوقوف خلف أي عمل إرهابي من دون أدلة دامغة. فعلى رغم إعلان الهند حرصها على هذا الأمر، الذي احتفت به باكستان على نحو ما تجلى في تأكيد خارجيتها على أن أفضل ما توصل إليه الجانبان الهنديوالباكستاني منذ نزوعهما نحو التهدئة منذ العام 2004 هو التحول في صراعهما من حقبة العداء التصعيدي التي كادت أن تفضي إلى تفجر الحرب الرابعة بينهما في العام 2002، إلى مرحلة الحوار البناء الذي يمهد لوضع إجراءات ناجعة ومتواصلة لبناء الثقة وتعزيزها بين الطرفين. إلا أن مثل هذا التوجه ظل مفتقداً للجدية والفاعلية، إذ كانت نيودلهي تنوي من خلال الإعلان عن تبنيه تثبيت الوضع الراهن في كشمير على ما هو عليه والتخفيف من وطأة الاحتقان والتوتر المنتشرين في ربوعه، واختزال أية مفاوضات أو تسويات مع الجانب الباكستاني في إبرام حزمة من الاتفاقات الثنائية لتنظيم عملية مكافحة ما تعتبره إرهاباً في الإقليم أو خارجه عبر تقويض المقاومة المسلحة المناهضة للوجود الهندي هناك من دون تسوية حقيقية للمسألة الكشميرية التي هي لب الصراع المزمن بين الجارتين النوويتين. وبذلك، باتت إجراءات بناء الثقة بين نيودلهي وإسلام آباد منحصرة في الكثير من الخطوات الودية العارضة التي افتقدت للإطار القانوني والمرجعية السياسية اللذين يجعلان منها قاطرة تنطلق بقوة نحو سلام حقيقي، إذ اختزلت في مساعٍ لتبادل السجناء والموقوفين ومحاربة الإرهاب ومناهضة تهريب السلاح والمخدرات عبر الحدود فضلاً عن توسيع مجالات التعاون الثنائي بين البلدين في مجالات شتى كالسياحة والثقافة والاقتصاد والتجارة وإقامة المزيد من خطوط الاتصالات والمواصلات بين شطري كشمير وتسهيل فرص التقاء الأسر والأقارب التي شتت شملها خط السيطرة في أكثر من موضع بشكل منتظم، وتسهيل زيارة الأماكن المقدسة الدينية في كلا البلدين لأتباع المذاهب والطوائف كافة من دون قيد أو شرط. وهو الإطار الذي حرص رئيس الوزراء الهندي منموهان سينغ على ألا تتخطاه أية محادثات تجرى بينه وبين الرئيس الباكستاني مع إرجاء المفاوضات في شأن كشمير إلى أجل غير معلوم. وعمدت الهند من وراء ذلك التوجه إلى جعل خط السيطرة في كشمير بمثابة"حدود رخوة"بينها وبين باكستان توخياً لتحقيق ثلاثة أهداف: أولها، التحايل على الضغوط الأميركية الرامية إلى مكافأة نظام إسلام آباد على دوره البارز والمثقل لكاهل بلاده، خلال الحرب الأميركية ضد ما يسمى بالإرهاب في القارة الآسيوية. وثانيها، رغبة حكومة سينغ في سد الثغرات الأمنية التي تتيح للجماعات الكشميرية المسلحة القيام بعملياتها العسكرية ضد المصالح والقوات الهندية سواء في داخل الإقليم أو في شبه القارة الهندية، وذلك من خلال محاصرة وتقليص الدعم الباكستاني لها عبر إيجاد مصالح ومجالات تعاون حقيقية مشتركة لأطراف الصراع كافة في كشمير من دون مساس بسياسة إبقاء الوضع على ما هو عليه في الإقليم. أما ثالثها، فيكمن في اختزال أية تسوية ممكنة للمسألة الكشميرية في تحويل إقليم كشمير إلى ساحة للتعاون الاقتصادي والثقافي والأمني بين الهندوباكستان بدلاً من تعقيدات التسوية السياسية والقانونية العادلة للقضية، حيث تتطلع الهند إلى أن يكون ذلك التعاون بوتقة تذوب فيه المسألة الكشميرية ويطوى ملفها إلى الأبد. وفي ضوء ذلك، يبدو من الصعب اعتبار تلك الخطوات التقاربية الاختزالية بمثابة إجراءات حقيقية لبناء الثقة بين طرفين يظللهما صراع اجتماعي ممتد أنهكتهما خلاله ثلاث حروب في ما لا تزال الرابعة تلوح في أفق علاقاتهما الملبد بالغيوم. فما من إجراءات حقيقية لبناء الثقة بين طرفين متصارعين يتطلعان إلى إدراك تسوية عادلة ونهائية لصراعهما المزمن إلا عبر اتخاذ خطوات جادة وشجاعة في ما يخص عملية التسوية العادلة للب ذلك الصراع المتمثل في القضية الكشميرية، على أن ترافق ذلك التمهيد أو الاستعداد للتسوية إشارات ورسائل طمأنة متبادلة بين الجانبين كالإقلاع عن أي مظهر من مظاهر التهديد أو التلويح بالتصعيد، توازيها مبادرات تعاونية وتقاربية على مختلف الصعد. وتأسيساً على ذلك، يتضح أن ما تتحدث عنه الهندوباكستان من إجراءات لبناء الثقة بينهما يظل بعيداً إلى حد كبير عن ما يجب أن يكون ، فلا تزال الهند تتمسك بموقفها من المسألة الكشميرية معتبرة الإقليم جزءاً لا يتجزأ من أراضيها وغير قابل للتفريط فيه أو التفاوض حوله، كما ترفض أية وساطة دولية أو تدخل طرف ثالث، ولا يتورع الجانبان عن القيام بمناورات عسكرية وتطوير قدراتهما الحربية التقليدية وغير التقليدية من دون تبادل رسائل الطمأنة أو إعادة الطمأنة بين بعضهما البعض، حتى أن نفي نيودلهي أخيراً نيتها مهاجمة باكستان رداً على هجمات بومباي جاء مطاطياً إذ رافقته تهديدات مبطنة طوتها تأكيدات هندية على استعداد دائم لتبني ذلك الخيار التصعيدي إذا ما استشعرت نيودلهي تهديداً لأمنها. كما لا تزال الشكوك تستبد بكل منهما حيال الآخر، في الوقت الذي يسعى كل طرف إلى البحث عن حليف إستراتيجي إقليمي أو دولي يستقوي به في مواجهة الآخر، إذ أعلنت الصين دعمها للموقف الباكستاني خلال أزمة أحداث بومباي فيما أعلنت واشنطن وموسكو دعمهما التام للموقف الهندي، وإن بدت واشنطن من جانبها أكثر حرصاً على نزع فتيل التوتر بين باكستانوالهند حفاظاً على عقد التحالف الدولي في الحرب على الإرهاب من الانفراط. وبناء عليه، تبقى فرصة تسوية الصراع الهندي - الباكستاني مرتهنة بمدى صدق نيات أطرافه في توخي السبل الملائمة والكفيلة ببناء الثقة بينهما علاوة على مدى فعالية جهود ومساعي الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي في نشر ثقافة السلام بين طرفي الصراع كخطوة تمهيدية ومحورية لارتياد طريق التسوية الجادة والنهائية لذلك الصراع. ولتكن خطى ترسيخ جهود التعاون من أجل مقاومة الإرهاب وتعزيز المساعي المشتركة على طريق التصدي لأعمال العنف المتبادل بين نيودلهي وإسلام آباد بدلاً من تبادل الاتهامات بين الفينة والأخرى في شأن التورط في دعمهما، خير بداية لبناء الثقة وترسيخ ثقافة السلام توطئة لتسوية الصراع المزمن والدامي بين الطرفين. * كاتب مصري.