بعد عامين من التوتر الأمني والسياسي، يعود معرض الكتاب العربي والدولي في بيروت في دورته الثانية والخمسين، وسط أجواء مستقرة أمنياً بعيداً من الاغتيالات والتفجيرات. لكن هذا الانفراج وحده، لم ينعكس إيجاباً على أجواء المعرض، وبصرف النظر عن القدرة الشرائية، إذ باتت تلوح في الأفق مشكلة شريحة كبيرة لم يعد الكتاب صديقها المفضل. فالمعرض الذي ينظمه"النادي الثقافي العربي"بالتعاون مع"نقابة اتحاد الناشرين"في لبنان، وقع في خطأ فادح بعد أن حدد موعداً لانطلاقته في فترة تتزامن مع حلول أعياد الأضحى والميلاد ورأس السنة، ما يحد من القدرة الشرائية لكثيرين. وفي بلد يعاني غلاء في المعيشة، يفضل المواطنون الخبز على الكتاب. ولم تكتف الجهات المعنية بهذا الخطأ، بل قدّمت المعرض بنسخة تشبه الى حد كبير الدورة الماضية، شكلاً ومضموناً، من دون أن تضخ دماً جديداً فيه يوقظه من سباته. أسئلة كثيرة تطرح هنا: ما الفائدة من معرض للكتاب يُقدَّم سنوياً بالأفكار ذاتها، أو من دون مشاركة عالمية أو عربية واسعة؟ ألم يحن الوقت لتخصيص جوائز أدبية حقيقية؟ أين الدعاية الإعلانية والترويج الإعلامي للمعرض؟ لا يلاحظ المتجول في بيروت، أن ثمة معرضاً للكتاب في المدينة، إن لم يتصفح الجرائد أو يخبره أحد بذلك، فيما تجتاح الإعلانات الطرق معرّفة ببرنامج سهرات الأعياد المقبلة. أليست الدعاية جزءاً من إنجاح المعرض ولفت الانتباه اليه؟ ثم الى متى ستبقى الصفة الدولية مرافقة له اقتصرت المشاركة الأجنبية على الجناح الإيطالي فقط؟ أين دور المعرض كمرشد الى العناوين الجيّدة القديمة أو الجديدة؟ هل مشاركة نحو ثلاثين داراً عربية كافية؟ لم لا يحذو المعرض حذو معارض الكتب العالمية والعربية البارزة من حيث الدعاية والإعلانات والتنظيم والأفكار الخلاقة والإبداعية، والندوات الهادفة والبناءة، واستضافة أكبر قدر ممكن من المبدعين؟ لماذا لا تفهرس دور نشر كثيرة كتبها أو تفصل الشعر عن السياسة والاقتصاد والرواية وغيرها؟ ما هو دور وزارة الثقافة في الترويج للمعرض، وأي دعم تقدم له؟ الأسئلة كثيرة لكن الإجابة عنها صعبة. بات معرض بيروت بحاجة الى إدارة جديدة شابة، ترتقي به الى مستوى أعلى عبر استضافة أسماء طليعية في شتى الحقول وتنظيم ندوات ومؤتمرات تستقطب الجيل الجديد وتحاكي أفكاره. ولم ينتبه القائمون على المعرض ان بيروت ستكون في نيسان ابريل المقبل تاسع عاصمة عالمية للكتاب، ولم تُستغل هذه الفرصة للشروع في ترسيخ هذه الصفة العالمية لبيروت. في جولة بسيطة على الأجنحة، يلاحظ الزائر افتقار المعرض الى كتب المسرح والسينما والتلفزيون والفن التشكيلي والنقد والموسيقى والرياضة والعلوم الحديثة، علماً أن هذه المجالات في صلب الثقافة الحديثة ولها جمهورها الواسع. والطريف أن ندوات ومحاضرات تقام حول هذه المجالات فيما الكتب المتعلقة بها غائبة أو شبه غائبة. مثل هذه الكتب خصوصاً المعلوماتية، تثير فضول القارئ الحديث لكن معرض بيروت حرم القارئ منها. وثمة سؤال لا بدّ من طرحه: هل بيروت قادرة على استيعاب أربع معارض في السنة وان أقيمت في شكل متقطع أو متوالٍ وهي: معرض"الكتاب الفرنكوفوني"، معرض"الحركة الثقافية في انطلياس شمال بيروت ومعرض"المعارف"في الضاحية الجنوبية، إضافة الى المعرض الأساسي في قاعة بيال؟ المعرض الفرنكوفوني كان باهتاً هذه السنة نسبة حضور متدنية، فيما يتردد أن الانقسامات السياسية في لبنان شملت معارض الكتب أيضاً وبات لكل منطقة معرضها، مع الحفاظ على المشاركة في المعرض الكبير! تواقيع زحمة زوار يشهدها المعرض، وغالبيتهم يأتون لتزجية الوقت وقتل الملل. الصالات تعج بالمتفرجين الذين يتصفحون كتباً من دون ان يشتروها، أو حتى يسألوا عن ثمنها. كهول وعدد قليل من المراهقين يتنقلون من دار الى أخرى بحثاً عن عناوين جذابة ولافتة، ودور في الأروقة الخلفية للمعرض لا يجد الجمهور اليها سبيلاً. أن ترى أحدهم خارجاً من المعرض محملاً بالكتب، أمر ليس بنادر، لكنه قليل. ولولا حفلات التوقيع السنوية التي ينتظرها غالبية الكتّاب ودور النشر لخفتت حركة الإقبال كثيراً. فحفلات التوقيع هي المورد الأساسي للدور، وعبرها تعج القاعات بالحاضرين، يلتفون حول الكاتب مطالبين اياه ببضع كلمات هي بمثابة إهداء على نسخهم الخاصة. وعادة ما تقام حفلات التوقيع بدعوة من الدار أو الكاتب نفسه، ما يحرج بعضهم، إذ يعتبرون أن حضور حفلة التوقيع لحظة تلقيهم الدعوة بات الزامياً. ويعتمد نجاح توقيع الكتاب أو عدمه على علاقات الكاتب الشخصية، فكلما كانت كثيرة، زادت مبيعاته ما يجعل الدار في غالبية الأحيان تسترجع كلفة الكتاب من حفلة توقيع واحدة. والسنة هذه برز خرق موسيقيّ للتواقيع السياسية والدينية والأدبية، سجله الفنان خالد الهبر عبر توقيعه ألبومه الجديد"هيدا زمانك"ورافقته أغاني العمل الجديد، ما أثار الحماسة لدى الجمهور خصوصاً أن الأغاني تنتقد الواقع اللبناني بلغة ساخرة. كافتيريا المثقفين أما"كافتيريا"المعرض فهي ليست بغريبة عن أجواء المقاهي في شارع الحمرا، ففيها يلتقي مثقفون وأدباء وشعراء ليقيموا العناوين والإصدارات الجديدة، فيدلي كل واحد منهم برأيه. وتشهد الجلسات حوارات حامية، توحي بأنها عميقة وجدية، تتناول الكتب والكتّاب وتختلف من شخص الى آخر. فإذا كان صاحب الإصدار الجديد، صديقاً ل"الشلة"التي تعتبر نفسها الآمرة الناهية، نجح عمله، وفي حال عدم قبوله، يتحول مباشرة الى المحرقة مجازياً، ويسقط من لائحة النقاشات. هذه"الشلة"التي"تحتل"الكافتيريا، لا توفر سهام نقدها أحداً مهما علا شأنه أو عظم. الا أن بعض حلقات النقاش التي تدور فجأة حول معضلة ما، قد تكون أنجح من بعض ندوات المعرض. أدب أطفال بدا حضور أدب الأطفال لافتاً هذه السنة وقد خصصت له جائزة فازت بها دار الحدائق عن كتاب ألفته الكاتبة نبيهة محيدلي وعنوانه"ألف باء الحيوانات". والكتاب هذا رحلة في عالم الحيوان، عبر اختيار الحيوانات انطلاقاً من الأحرف. وجديد الدار هذه السنة مساحة للرسم موضوعها"ارسم كتابك بنفسك". أما دار"أصالة"المعروفة باعتنائها بكتب الأطفال، مضموناً وشكلاً، فقدمت هذه السنة دفعة كبيرة من الكتب، قصصاً وروايات، مرفقة برسوم ولوحات. وتتعاون هذه الدار مع كتاب كثر منهم: عايدة نعمان، سمير مالطي، شذا شرف الدين، فاطمة شرف الدين... اضافة الى تعاونها مع الكاتب السوري زكريا تامر. وهناك"دار قنبز"التي هي وليدة شغف كبير بالكتب والفن والموسيقى والرسوم المتحركة والأفلام، وهي تتوجه للصغار والناشئة والكبار، عبر كتب مرسومة، مصوّرة، صامتة، ملموسة وفنية... ولم يغب أدب الأطفال عن دار الساقي التي أصدرت مجموعة من الكتب بينها ديوان للشاعر حسن العبدالله عنوانه"فرح"وكذلك دار الآداب والدار العربية للعلوم ? ناشرون وسواها. وأدخل المعرض الطلاب ضمن نشاطاته، اذ اتفق مع بعض المدارس ليقدم طلابها من أصحاب المواهب الفنية والأدبية قصائد ولوحات تشكيلية ومقطوعات موسيقية ولوحات راقصة، لتعبر هذه النشاطات عن مواهبهم. وزار المعرض الأربعاء الماضي أكثر من 6350 طالباً من 64 مدرسة من مختلف المناطق للمشاركة في النشاطات التي يقيمها النادي الثقافي العربي لهم وتلك التي تحييها المدارس يومياً في الفترة الصباحية من المعرض. ويبقى السؤال ما الهدف من مشاركة هذا العدد الهائل من طلاب المدارس علماً أن قدراتهم الشرائية محدودة، هل هي لزيادة عدد الزوار، أم لتربية أجيال مقبلة على حب الكتاب؟ ومن نشاطات المعرض، الأمسية التي كرمت الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وبدت مفتعلة وغير لائقة بظاهرة"الأخوين"ودون مستواهما، فهي بدت منسوخة عن ندوات أقيمت سابقاً، خصوصاً أن المشاركين فيها هم أنفسهم دوماً. وقدّمت الشاعرة اليابانية كيكو كوما أمسية شعرية تميزت بحضور كثيف، ورافقها عزفاً على البيانو الموسيقي الياباني ايداكي شاين، وترجمت القصائد عبر شاشتين عملاقتين في زاوية القاعة. وحضر الشعر بشدة هذه السنة عبر الدواوين الصادرة وقد انتهزت دار النهضة العربية فرصة المعرض لإطلاق سلسلة من دواوين الشعر العربي الحديث بأغلفة ملوّنة ومن الشعراء الذين نشرت لهم: ربيعة جلبطي الجزائر، أحمد زرزور مصر، انطوان أبو زيد لبنان، أحمد شافعي مصر، طه عدنان المغرب وسواهم. مؤتمر الناشر العربي ومن أبرز نشاطات المعرض"مؤتمر الناشر العربي"، الذي نظمته دار الهادي و"ديوان الكتاب"، وحضره حشد من المعنيين بصناعة الكتاب والمهتمين بعالم النشر والطباعة والتوزيع. وترأس الجلسة الأولى التي حملت عنوان"الكتاب العربي والعالمية"، رئيس الاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات سعد الزهري السعودية، وتحدث فيها أحمد الكبسي اليمن ونبيل صادر لبنان ويوسف عيدابي السودان. وأدار الجلسة الثانية وترأسها رفيق عطوي لبنان وتناولت"التجديد في الكتاب العربي لغة ومضموناً"وشارك فيها محمود السيد سورية وعبدو الراجحي مصر وعدنان العيدان العراق. الجلسة الثالثة التي تولى رئاستها فضل مخدر، حملت عنوان"التنوع الثقافي وعالمية الكتاب العربي"، وكانت أولى الكلمات لوجيه فانوس لبنان ثم تحدث رضوان بو جمعة من الجزائر ومازن مصطفى من فلسطين. أما الجلسة الختامية فترأسها أسامة محيو لبنان وعنوانها"النشر بين الكتاب الورقي والكتاب الالكتروني"، وتكلم فيها عادل خليفة مصر، عدنان سالم سورية وغسان مراد لبنان. والتوصيات التي أذاعها المنسق العام للمؤتمر فضل مخدر هي: ضرورة التركيز في طباعة الكتب ونشرها على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، مراعاة المعايير النفسية في إخراج الكتاب العربي من حيث الوسائل واللغة وعلامات الترقيم والفهارس والتعريف بالأعلام ووضع المصطلحات وتعزيز الترجمة من العربية الى اللغات الاخرى ومن اللغات الاخرى الى العربية. ودعا المنتدون"المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم"الى وضع خطة عمل قومية لتشجيع الناشئة على القراءة وتذليل المعوقات الحائلة دون الاقبال عليها. وناشدوا جامعة الدول العربية تسهيل سيرورة الكتاب بين الدول الاعضاء فيها وتيسير انتقاله ومنح معارض الكتب في الدول العربية وخارجها التسهيلات اللازمة. ودعوا الى تعزيز النشر الإلكتروني للكتب على ان تقدم في مضامينها الجوانب الفكرية الابداعية والانسانية. نشر في العدد: 16683 ت.م: 07-12-2008 ص: 25 ط: الرياض