يُثير كتاب الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء" الصادر حديثاً عن مجلة"دبي الثقافية"كمّاً من المشكلات التي لا تنتهي، لا لأنّه يهاجم قصيدة النثر فحسب، بل لأنّه لا يُحسن الدفاع عن الوزن في شعر التفعيلة. ففي معرض تسهيمه"النبال"صوب قصيدة النثر، يصيبُ الوزن بجراح كثيرة فضلاً عن جراح أخرى تُصيب فنّ النثر. فهذا الفنّ العربي الجميل يظهرُ فجأةً بعد نهاية قراءة الكتاب مصاباً"بأزمة هوّية"إن صحّ التعبير، لأن حجازي يؤاخي بينه وبين قصيدة النثر على أساس انتفاء الوزن فيهما. يختار حجازي من التراث العربي والكتابات الغربية المقولات ذاتها التي استند إليها الداعون إلى قصيدة النثر، ويحاول تفنيدها فيخطئ في غير موضع. فهو يبدأ من التعريف الشهير للشعر بأنّه كلامٌ موزون مقفّى، ظناً منه أنه بذلك إنما يؤكد الدور الجوهري للوزن. لكن التعريف القاصر يمكر بالشاعر، فهو تعريفٌ ظهر في القرن الرابع الهجري ويهدف إلى التفريق بين الشعر الموزون المقفّى الذي كان القصيد"شكله"شبه الوحيد ? فالموشحات أقلّ وروداً وهي تشبه القصيد في نواحٍ عدة - وبين النثر كجنس أدبي مستقل، وعليه فهو لا يصحّ للتفريق بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر. لأنّ الأوّل لم يعد مقفّىً أصلاً، فالقافية ليست لفظاً بل هي اصطلاحٌ عَروضي يخصّ القصيد الشطرين المقفّى، وهي تؤدّي دوراً رئيساً في بنيته، وقد وضعها كاصطلاحٍ، الخليل بن أحمد ? وخالفه الأخفش الأوسط - في القرن الثاني الهجري لا الثالث الهجري كما يظنّ حجازي. هذا الخطأ يقود الشاعر أوّلاً إلى الخلط بين النثر وقصيدة النثر فيعدّهما شيئاً واحداً، مستنداً إلى انتفاء الوزن فيهما، من دون أن ينظر في اللغة، أو يدقّق في المثال الذي وضعه بنفسه لبيت المتنبي الشهير:"ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُه/ تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ"، فينثره ويظنّ أن انتفاء الوزن فيه يعني الخروج من الشّعر إلى النثر. ولنا في كلام ابن طباطبا العلوي القرن4 ه دليلٌ صحيحٌ على ذلك:"فمن الأشعار أشعار محكمة متقنة الألفاظ حكيمة المعاني، عجيبة التأليف إذا نُقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها"، فانتفاء الوزن لا يُخرج"النصّ"من الشّعر إلى النثر. أمّا الخطأ في وضعِ علم العَروض في القرن الثالث الهجري، فيمنع"مقولة"ثانية، أضحت بمثابة الكليشيه، من التدقيق وإعادة النظر، ألا وهي قول أبي العتاهية:"أنا أكبر من العَروض"، إذ يكشف البحث العلمي عند العودة إلى كتب التراث "زهر الآداب وثمار اللباب"للحصري القيرواني، وپ"التمثيل والمحاضرة"لأبي منصور الثعالبي المعنى الكامن وراء قول أبي العتاهية"فأكبر هنا لا تعني أوسع، بل تعني قبل العَروض. وفي إحدى الروايات يقول أبو العتاهية:"أنا أسنّ من العَروض"، ويقول في أخرى:"سبقتُ العَروض"، لأنّه كان يعرفه بالسليقة، كما دأب الشعراء عادةً، وربما لم يستسغ إنشاء علمٍ له. أمّا ما يُنسب إليه من أبيات تحت اسم"مدق القصار"، فهي في شاهد"عُتبُ ما لِلخَيالِ / خَبِّريني وَمالي"من مجزوء الخفيف المخبون المقصور، وفي شاهد"لِلمَنونِ دائِرا /تٌ يُدِرنَ صَرفَها"من مجزوء الرّمل. وخلا هذين الشاهدين فإنّ أشعار أبي العتاهية من القصيد الموزون، أي إن أبي العتاهية لم يخرج عن العَروض عملياً. وهذه الأخبار الواردة في كتب التراث تخدع غير العارف بالعَروض لا أقلّ ولا أكثر. فضلاً عن هذا، كان حريّاً بالشاعر أن ينتبه إلى ما انتبه إليه من قبله البلاغيون القدماء ليعرفَ كيفَ أن تعريف الشعر أعلاه، لم يُرضِ طائفةً كبيرةً منهم، وعلى رأسهم علماء العَروض الذين اشترطوا في مقدّمات كتبهم أن"يقصد"الشاعر قول الشعر، إذ إن مفهوم القصد في الوزن كان أمراً ضرورياً للتفريق بين الشّعر والنظم أوّلاً وللفتِ انتباه المتلقي ثانياً إلى أنّ علم العَروض لصيقٌ بفنّ رفيع هو الشعر لا النظم. و تبيّن كتبُ العَروض كذلك أن ثمة فرقاً جوهرياً بين لفظين"الوزن والبحر، خِلافاً لحجازي الذي يظنّهما مترادفين، فالبحر هو الأصل، أما الوزن فصورته في الاستعمال، نحنُ نقول البحر الطويل بالمطلق، لكننا نقول هذه القصيدة بعينها من وزن الطويل، وعندها نحدّده أهو سالمٌ أم مقبوضٌ أم محذوف. هذا الخلطُ بين الوزن والبحر، يقود الشاعر إلى الخلط بين الوزن والإيقاع، فيعدّهما شيئاً واحداً كذلك، لأنّه مشغولٌ بنفي الإيقاع عن قصيدة النثر، فيتوهم أن نفي الوزن عنها يؤدّي إلى نفي الإيقاع عنها كذلك، وهذا غير صحيح. ثمة فروق كبرى بين الوزن والإيقاع فالأوّل هو أداة للقياس وهو هو لا يتغيّر في حال اختلفَ شكل القصيدة"من القصيد إلى بعضِ الموشح إلى الرباعيات إلى القوما إلى الكان وكان إلى المواليا إلى الدوبيت وصولاً إلى شعر التفعيلة. أمّا الإيقاع فيتغير وتؤثّر فيه عوامل عدّة على رأسها الشكل، إذ للقصيد ذي الشطرين والمقفّى بنيةٌ راسخةٌ تقوم على التماثل التام بين الشطرين من جهة، وعلى العَروض والضرب والقافية من جهة ثانية، ما يعني أن ثمة ضوابط مخفية"تفرض"على الشاعر إيفاء المعنى ضمن جملتين، وقد أشار إلى ذلك ثعلب في كتابه"قواعد الشّعر"، وهو الأمرُ الذي دفعَ بعضاً من الشعراء إلى"مخالفة"ذلك، ومدّ الجملة من الشّطر الأوّل إلى الثاني من أجل"تعطيل"إحدى وظائف تفعيلة العَروض. وقد قام المتنبي بذلك، بخاصة في قصائده التي تجري على البحر المنسرح، وغيره من البُحور التي تقبلُ الَجزْء والنهْك والتشطير. هذا في شكل القصيد، أمّا الأشكال الأخرى، فقامت بدورها على"ضوابط"خاصّة بها، ونكتفي هنا مثلاً بالإشارة إلى المصطلحات الجديدة التي تخصّ الموشح من سلسة وقفل وغيرهما. أمّا في شعر التفعيلة، فنحنُ نقع على"أشكال"جديدة، وقد برع محمود درويش في ابتكارها، وهي أحد أسرار سيطرته على الإيقاع وتحكمه فيه. وعدا الشكل، ثمة عوامل أخرى تخصّ الإيقاع منها"تناغم الحروف، واللجوء إلى رصف الكلمات المتجانسة لفظياً، والتكرار بصوره المتعدّدة، كأن يكرر الشاعر جملةً معينة عند كل مقطع، أو أن يكررها وينقص منها الألفاظ واحداً واحداً، أو بالعكس يزيدها واحداً واحداً. زد على هذا أن تركيب الجملة النحوية يؤدّي دوراً في توليد الإيقاع كذلك، خصوصاً حين يقوم الشاعر بالتوازي وقد سمّاه البلاغيون العرب الازدواج، أي أن يكرر التركيب النحوي في جملتين ويغيّر ألفاظهما في الوقت عينه. فإنّ كانتْ قصيدة النثر لا تقوم على الوزن ولا على شكلٍ محدّد، فإنها تستطيعُ الإفادة من التقنيات الأخرى أعلاه، لتوليد الإيقاع. وبعيداً من تُراثنا الجميل، تختلطُ الأمور على حجازي آن يقترب من الغرب"فيرجع اللفظ الغربي metrique إلى"المتر"، من دون أن يعرف أن العرب كانت تقول بالتمتير، وهذا اللفظ يردُ في النصوص التي حَفظتْ كيف كان العرب يعلمون أولادهم قول الشعر وذلك قبل أن يقوم الخليل بوضع علم العَروض. كذا، يقومُ حجازي في معرض هجومه على قصيدة النثر بالاستشهاد بالعَروض الغربي من إنكليزي وإغريقي وفرنسي ليؤكّد دور الوزن في الشّعر الغربي فينصره عربياً. لكنّ أسئلة المستشرقين تتسربُ إليه، فيرى العَروض العَربي كمّياً كدأب الإغريقي، ويراه في"معظم اللغات الأوروبية الحديثة نبرياً أو ارتكازياً". وهذا كلامٌ يجافي الدّقة العلمية، فالنبر والارتكاز ليسا مترادفين، لأنّ النبر يكون في اللغة أمّا الارتكاز فهو في الشعر وحده. العَروض الإنكليزي ارتكازي، والفرنسي مقطعي والإغريقي كمّي، لكن العَروض العَربي الذي حيّر المستشرقين، فسألوا أكمّيٌ هو أم ارتكازي ليقيسوه على أعاريضهم، ليس من هذا ولا من ذاك، بل هو نغمي انسيابي. وكان أولى بالشاعر ألا يقتبس من محمّد مندور الذي لم تُنشر إلى اليوم أبحاثه عن الشعر العربي التي قام بها في مختبر الصوتيات في باريس- بل أن يعود إلى المصري القدير شكري عيّاد الذي أنكر ? وأثبت ذلك علميّاً - الارتكاز في الشّعر وقال بانسيابية اللغة العربية. الوزن هو الغائب الأكبر في كتاب"قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء"، فنحنُ لا نعرفُ على وجه الدقّة عمّا يُدافعُ حجازي، ولا يبدو ربط الوزن بالمعنى مُقنعاً على الإطلاق، بل لعلّه من أضعف الحجج في الدفاع عن الوزن. فهو يقول ردّاً على محمود أمين العالم وعنه:"فهو لم يلتفت بالمقدار ذاته الى الدور الذي لعبه الوزن فيها، ولم يكشف في نقده التطبيقي للشعر عن العلاقات القائمة بين المعاني والأصوات"، فحجازي ينظرُ إلى الوزن باعتباره من الأصوات ويربطُه بالمعنى، بينما ترتبطُ الألفاظ بالمعنى لا بالتفاعيل، لسبب بسيط"التفاعيل أداة للقياس، بها يُوزن اللفظ أو جزءٌ منه أو أكثر من لفظ أو جزءين من لفظ. التفعيلة تسيلُ بين الألفاظ كالماء، ويضبطها ما يوافقُ صورها من صحيحة أو مزاحفة بقطع النظر عن الألفاظ. أمّا المعاني فهي مضمار الشاعر يُشكّلها كما يسمحُ له خياله، وكما تتيحُ له موهبته، يرفعها إلى المجاز والاستعارة ويجترح منها معاني جديدة. فالشعر يقوم على خلقِ المعنى، والنثر يدّقق المعاني فيخبّر ويصف ويخاطب ويستعملُ أحابيل البلاغة ذاتها التي يستعملها الشّعر من كناية ومجاز وتلميح وإشارة. أمّا قصيدة النثر فمن الصحيح أنها خالية من الوزن لكنها ليست خاليةً من الإيقاع وإن كان شعراؤها لا يتساوون في الاجتهاد من هذه الناحية. ولعلّ الغياب الفادح لدور الوزن في بناء القصيدة ? لا في الإطراب ولا في التقييد ولا في المعنى قطعاً- في هذا الكتاب يزيد تعقيد الأمور من حيثُ هو لا يُحسنُ الدفاع عنه أوّلاً، ويصيبُ النثر بسهامه ثانياً. نشر في العدد: 16677 ت.م: 01-12-2008 ص: 26 ط: الرياض