كتاب محمود درويش الجديد "أثر الفراشة" دار رياض الريس ليس ديواناً شعرياً ولا كتاباً نثرياً، بل هو يوميات - كما عنونها صاحبها - إذ إنه لا ينطوي على تنظيم واضح - أسوةً بدواوين درويش الأخيرة لماذا تركت الحصان وحيداً؟، لا تعتذر عمّا فعلت، كزهرِ اللوز أو أبعد أو كتبه النثرية ذاكرة للنسيان، في حضرة الغياب التي تتميّز بهندسة بنائية واضحة، على نحو يكون التنظيم فيها هو الترتيب المترابط الذي تجد فيه كل العناصر مكانها بالنسبة إلى سائر العناصر ببساطة ووضوح. ونظراً إلى غياب هذا التنظيم، يبدو لفظ يوميات أقرب إلى وصف شكل هذا الكتاب، حيث هي يوميات لغوية غير منتظمة تنفرج عن جنسين أدبيين موصوفين: الشّعر والنثر. فنحن نجد في"أثر الفراشة"قصائد تفعيلية موزونة 47 قصيدة ونصوصاً نثريّة 81 نصاً، ولعلّ التجاور بين هذين الجنسيين الأدبييّن، يغري النقد ليشحذ أدواته ويستعيد تعريف الشّعر والنثر: ما هما؟ ما قوامهما؟ ما الذي يجعل اللغة شعريّة هنا ونثريّة هناك؟ وهل يكفي القول إن عنصر الوزن يؤدّي وحده الدور الفارق بينهما، فما هو موزون نعدّه شعراً وإن افتقر الى الوزن نعدّه نثراً؟ ما الفارق إذاً بين الشعر والنظم؟ ولِم يؤدّي الوزن هنا دوراً في شعرية النص، ويؤدّي هناك دوراً نظمياً؟ أهو عنصر شعري أم شكلي؟ أمّا السؤال الأكثر مكراً: ما هي قصيدة النثر إذاً؟ وكيف نفرّق بين قصيدة النثر والنثر نفسه في غياب الوزن؟ لا ينتظم الجواب عن هذه الأسئلة الآنفة إلا من خلال القبول بوجود الشعر والنظم والنثر وقصيدة النثر. وقد اختار درويش لكتابه الجديد اثنين منها، واحداً موزون وآخر غير موزون، وليس الوزن هو الفارق بينهما بل هي اللغة نفسها، ما يعني أنّ التحليل هنا سيطاول الأسلوب البلاغي لجهة علاقته بالمعنى في"أثر الفراشة"، إذ هو الأداة الأفضل أو الأسلم لسبر غور اللغة التي تبدو شعريةً في القصائد ونثريةً في النصوص. ولعلّ هذا التحليل ينصف قصيدة النثر التي يكتبها شعراء اليوم، وتختلف اختلافاً بيّناً عن هذه النصوص النثرية هنا. فلقصيدة النثر قوامها واستراتيجيتها وتقنياتها الخاصّة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللغة الشعرية، والمنفلتة انفلاتاً مقصوداً عن الوزن. ولعلّ"أثر الفراشة"ينجح من خلال الشّعر والنثر فيه، بإنصافِ قصيدة النثر، من حيث هو يفعل ما لا تفعل، ويضيء تالياً قوامها. الشعر والبناء الإيقاعي صحيح أنّ الوزن الموجود في قصائد درويش - التي ميّزها الشاعر من خلال الخط المائل - يؤدّي دوره الأولي في جعل هذه الكتابة قصائد موزونة، بيد أنّه يضطلع بدور آخر مهم وأساسي من حيث هو يضبط بناء النص، على نحو يبدو الوزن فيه عنصراً رئيساً لا في إيقاع القصيدة فحسب بل في بنائها كذلك، إذ إنّ إعادة الجمل الواردة في مطلع القصيدة عند نهايتها يضبط البناء أولاً، ويسمّى هذا النوع كأسلوب بلاغي البناء المحوري العكسي، الذي يشدّ المعنى إلى وسط القصيدة. هذا ما نجده مثلاً في القصيدة الأولى البنت/ الصرخة، حيث تتكرر الجملة للبيت نافذتان وباب/ بيت بنافذتين وباب. أمّا المعنى شعرياً - أو ما يجعل اللغة هنا شعرية لا نثرية - فنجده يتفتح رويداً رويداً عند وسط القصيدة:"فنادت: أبي يا أبي! قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!/ لم يجبها أبوها المسجّى على ظلّه في مهب الغياب/ دم في النخيل دم في السحاب". ينكشف المشهد إذاً عن مقتل الوالد وبكاء ابنته عليه من خلال لغة شعرية قوامها تدفق المعنى من خلال جمل قصيرة بالضرورة إذ هي ترتكز على المجاز والاستعارة والكناية لئلا يكون المعنى قريب المرمى بل ليكون بالضبط بعيده. وهو ما يتمّ من خلال الانزياح والإيحاء اللذين يرتبطان بالجمل الواردة قبل وسط القصيدة في البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة على شاطئ البحر وبالجمل الواردة بعد وسطها فتصير هي الصرخة الأبدية في خبر عاجل لم يعد خبراً عاجلاً. فلهذا البناء علاوةً على صفته الجمالية، وظيفة الكشف عن دلالية معينة، عبر تنظيم كلية النص من الناحية الجمالية أو بكلام أوضح عبر تحويل اللغة من لغة لا على التعيين إلى لغة شعرية بالضرورة. وسنجد اللجوء إلى هذا النوع من البناء المحوري العكسي في قصيدتي"ليتني حجر"، وپ"الغابة"وسواهما، وإن بصورة غير واضحة المعالم أو غير تقليدية. ذلك لأنّ الشاعر يلجأ أحياناً إلى لفت الانتباه إلى البناء المحوري العكسي وأثره في المعنى من خلال إعطاء بناء التوازي أهمية كبرى، مثلما نجد في قصيدة"مكر المجاز"، حيث تتوازى المفردات والجمل وتتقابل:"مجازاً أقول انتصرت/ مجازاً أقول خسرت". كما تتكرر الأفعال يمتد/ أمتد أو هي تترادف شعرياً تلمّانني/ يحملني. وتتكرر المفردات جهات/ الجهة أو هي تتعاكس الأوج/ والهاوية، وفي هذا كلّه يكون التوازي ضابطها الأوّل"شكلياً". وبيد أن كلّ لفظة منها ? سواء أكانت فعلاً أم اسماً - تنفتح على المعنى الشعري من خلال الاستعارة والكناية والمجاز، لتدخل القصيدة في حيز اللغة الشعرية لا النثرية من خلال هذه الجمل القصيرة التي تؤدّي بمجملها الى الانزياح العام ? أس اللغة الشعرية - الذي يندغم بمعنى القصيدة من خلال استراتيجية تغيير المعنى المقصود في مطلعها من طريق تكراره"لفظياً"عند نهاية القصيدة لئلا أقول انتصرت/ لئلا أقول خسرت الرهان، وفتحه على معنى جديد ركيزته التوازي بين مطلع القصيدة وخاتمتها، على نحو تبدو فيه جملة الوسط ثمة زيتونتان تلمّانني دليلاً على البناء المحوري العكسي من حيث هي تحمل في طياتها تنظيماً دلالياً مخفياً تحت تنظيم النص تنظيماً لغوياً وأسلوبياً، إذ هي التي تشير إلى أرض الشاعر وهويته، إلى أرض الزيتون والمقدس: فلسطين. الكلام عن فلسطين يحيل على ذلك النقد الذي يصرّ أن يقسم الشاعر مرتين، وعند كل مرة إلى شاعرين"في المرة الأولى لدينا شاعر للمقاومة وآخر لكل ما هو عكسها. وفي المرة الثانية لدينا شاعر لفلسطين وآخر لكل ما عداها، وفي جموع هؤلاء لا نجد محمود درويش، لأنّ توصيف الشاعر في الحالات الأربع يسبق شعره، لا بل يغطيه ويحجبه، على نحو يتمّ فيه الاكتفاء من الأمر بقشوره، أو بصورة أدق الاكتفاء من الشعر بظاهره أو لفظه الصريح، ما يعني أنّ النقد لا يرى من صورة"الأنا"الموجودة في القصائد إلا ما يسعفه في تثبيت التوصيف المسبق للشاعر. من هنا ينأى هذا النوع من النقد عن تحليل القصائد بصورة معرفية، ويفضل تحليلها من خلال نوعين لا ثالث لهما إلا في ما ندر: التفسير السياسي والتفسير الانطباعي للشعر، الأمر الذي يشرح لما يعزف النقد عن الخوض في مسائل لغوية أو عروضية أو بلاغية، هي في أصلها العلوم التي لا يستوي النقد من دونها. فهذه المسائل - الوثيقة بالمعنى الشعري - هي التي تبيّن عمل الشاعرِ في اللغة، وهي التي تعين الناقد على البرهان عن صحّة كلامه عن مهارة الشاعر المتمرس المتمكن من اللغة، والقادر على تحويلها إلى لغة شعرية بلا تكلّف أو عسف، كأنّما الشعر ينبع من تلقاء ذاته، وكأنّما البناء المحكم للقصائد عفو الخاطر، وكأنّما الوزن حيلة لضبط التدفق في المعنى لا الإيقاع. هذا ما نجده في القصيدة الجميلة"غريبان"، المؤلّفة من أربعة مقاطع تستند إلى البناء المتوازي، وفي كلّ منها عدد مدوزن من تفاعيل البحر الكامل - بحر درويش الأثير -، التي ستضبط بناء المقطع من جهة، وتمهد الطريق لمعنى القصيدة الإجمالي من خلالِ المعاني التفصيلية لكل مقطع من جهة أخرى. ويمكننا أن نجد خياراً بنائياً آخر في قصائد درويش يخاتل بين الشّعر والنثر، حيث يلجأ الشاعر إلى تقنية تقوم على شحن المعنى شعرياً عبر جملة واحدة، تعدّ شعريةً لأنّها تؤمن الانزياح من طريق ضمّ مفرداتها كي تحمل بؤرة معنى القصيدة. بينما تكون بقية الجمل الواردة في القصيدة الموزونة جملاً نثرية كونها تعمل في منطقة النثر تماماً: الوصف والإخبار، كما تحاذر الوقوع في فخ السرد لئلا تخرج من الشعر إلى القص. هذه هي حال قصيدة"شخص يطارد نفسه"، أو "نهر يموت من العطش"التي يتضّح معناها من خلال جملة قصيرة لكّنهم خطفوا أمه، إذ هي تكشف المعنى العام من خلال انزياح مفرداتها عن معانيها القاموسية وهو ما يوسّع دلالتها. بينما تبدو الجمل القصيرة حولها في القصيدة نثريةً: وأمّ سماوية أرضعته السحاب المقطرّ، لأن قوامها الوصف الذي تضطلع فيه الكناية بمهمة رسم الصورة الشعرية. لكن تواتر هذا النوع من الصور الشعرية في جمل نثرية لا يتمّ كيفما اتفق، بل هو يخضع لبناء محكم يقوم على تدفق المعنى من خلال النثر أولاً قبل أن ينعطف باتجاه الانزياح/ الشعر. كما لو أنّنا نشهد كيف تنتقل اللغة من النثر إلى الشعر. نثر أم قصيدة نثر؟ صحيح أن غياب الوزن يسّهل القول إن النصوص هنا - التي ميزها درويش بخط عادي - نثرية، لكّنه لا يسهل الإجابة عن السؤال: أهذا نثر أم قصيدة نثر؟ وكيف تمكن إقامة دليل بلاغي للقولِ بجنسِ النص في حال غياب الوزن؟ لعلّ هذه الأسئلة والأخرى التي تتوالد منها بلا انقطاع تبدو ملحّة لقراءة هذه النصوص ذات الموضوعات المتنوعة: العزلة، الخيال، النبيذ، رائحة الحبيب، الجدار العازل، الحلم، الجلوس مع النفس، بعض المدن ... إذ يصعب القول فيما إذا كانت موضوعات ذاتية أم عامّة. فبعضها يبدو سياسياً بامتياز، ومشيراً إلى واقع فلسطيني أو عربي موصوف، ويبدو بعضها الآخر منطلقاً على عواهنه، حراً من أي قيد، متأملاً في ذاته وفي أفكار قد تزور أيّاً منا كلّ يوم. ومع ذلك تتشابه هذه النصوص في نفسها البطيء وتمهلها. وليس غياب الوزن عنها هو ما يفعل ذلك، إذ إنّها تسرّع إيقاعها أحياناً وتطير. وهي لا تحرم نفسها من أوضح أدوات البلاغة الشعرية، ففيها مجاز وكناية واستعارة وطباق وجناس وإثبات بالنفي وسواها. ومع كل هذا ليست هذه النصوص قصيدة نثر، بل هي نثر يشي به بناؤها الخاصّ واستراتيجيتها في خلق معان جديدة من معان أليفة. يظهر النثر بهياً متألقاً في نصوص الحب حوض الخزامى، أكثر وأقل، أغبط كل ما حولك التي تحفل بالصور الشعرية:"محتشمةً متكتمةً على طيبكِ كحوض خزامى. شفاف حضورك بلوري". لكنها لا تقول إلا معنى الحب الذي يتنامى من جملة طويلة إلى أخرى أطول منها:"فأنخطف إلى متاهات عليا لا يبلغها خيال تبهجه سعة المجاز ويحرجه فقر الكلام المتداول". ذلك لأنّ الوصف وحده هو السلك الناظم للنص النثري، من هنا تبدو الأدوات البلاغية كالتشبيه والاستعارة والكناية وسواها مختلفةً في النص النثري عنها في النص الشعري، إذ إنّ دورها في المعنى مختلف. صحيح أنّ العرب حددت هذه الأدوات في كتب البلاغة لكّنها لم تقل إن كان استعمالها يختلف بين الشعر والنثر، وكأن تحديد المصطلح هو بالضبط ما اتفق لفظه واختلف فعله بين الجنسين. وتبدو استراتيجية بناء النص مختلفة، إذ تؤدّي الجمل الطويلة دوراً مفسّراً للجمل الأقصر منها الواقعة قبلها تماماً، أو هي تعيد المعنى من طريق إطالة الطريق إليه، وكأنّما الهدف هو الوصول إلى معنىً أكثر دقة، الأمر الذي يبرّر ورود جمل استنتاجية في نهاية النص النثري، إذ هي تقفل النص وتختمه بعد أن يستوي قوامه: الوصف الدقيق. ولا يكترث هذا النوع من النصوص - نظراً إلى بنائه الخاص - باستراتيجية التوازي أو البناء المحوري العكسي أو غيرها من الأساليب الخاصّة بالبناء الشعري، إذ إن المعاني تتنامى في النثر ويمسك الوصف بزمامها، على عكس الشعر حيث تتدفق المعاني، ويتكفل إيقاعه الناجم عن البناء والوزن معاً بمسك زمامه. فالبناء في النثر لا ينتظم بل يذهب ثم يعود سارحاً وبارحاً، لا يقوده إلا الوصف ولا يشغفه إلا تدقيق المعاني. ولا يعني هذا أنّ ثمة تفاضلاً بين الشعر والنثر، مثلما لا يعني أنّ الوصف يجافي الشّعر، بل هو يؤّدي فيه دوراً مختلفاً عن دوره في النثر. فكما أنّ الإيقاع أشمل من الوزن، يكون الشعر أشمل من الوصف. أمّا النثر فلا يبنى إلا على الوصف وعلى توسيعه ليبلغ حدود الشعر. وقد يستعير من الإخبار نزراً، ليعينه على تدقيق المعنى أو مدّه، كما في"كما لو كان نائماً":"قال للكناري: صباح الخير، ونثر حوله فتات خبز". هذه الجملة الإخبارية ? وغيرها - تؤّدي دوراً في تدقيق معنى الجملة ما قبل الأخيرة:"أنا حيّ على الرغم من أنني لا أشعر بالألم". يشغف النثر بالأفكار موهبة الأمل، صناديق فارغة، ويتسع لبناتها ماذا... لماذا كل هذا؟، خيالي كلب صيد وفي وللخواطر حفيف، إستعارة، وللتأمّل غيمة ملوّنة، جار الصغيرات الجميلات والحكمة المتواضعة الرقيقة الناجمة عن التجربة أكثر من البصيرة وصلنا متأخرين، لم أحلم. لا ينمّ التنوع في الأشكال والتقنيات في قصائد درويش ونصوصه النثريّة عن التجريب أو شغفه، ذلك لأن تحليل أساليبها البلاغية المتعددة - وعلاقة ذلك بالمعنى شعراً ونثراً - يبيّن كم هي تسير رأساً إلى مقصدها ولا ترمي بنفسها في هواء التجريب أو في أهوائه. من هنا تدل تجربة درويش على نوع من الكرم النادر، إذ هي تقدم اقتراحات شعرية ونثرية صائبة، وتوسّع رويداً رويداً من خيارات الشعر والنثر معاً. وقد يظهر الكرم كهدية ثمينة في عيني القارئ القادر بسلاسة على الدخول إلى النثر والشعر من خلال التماهي مع صوت"أنا"الشاعر/ الناثر، مثلما قد يظهر كفوز أثير لدى الناقد الذي تمتّعه القراءة وتشغفه للبحث عن معنى علمي - أو مبرِّر علميّ سيان - لجمال اللغة العربية وألقها شعراً ونثراً."أثر الفراشة"هو صنعة الماهر بل هو صنعة كريم.