حين سأل المحاسب في شركة الاتصالات الشابة منى حسن الواقفة أمامه، ببراءة شديدة"مدام منى ..؟"، حتى يكتب اسمها على الإيصال مسبوقاً بمدام أو آنسة، ردت"لا .. آنسة". فقال ضاحكاً في ما بدا دعابة:"خلاص يا ستّي... العانسة منى". وعندما ارتسمت على وجهها علامات الامتعاض، رمقها بنظرة يتخللها مزيج من التعجب والشفقة مذيّلة، بجملة نزلت عليها كالسكين:"يعني معلش بكرة ربنا يفرجها". الفرج المنتظر من أبواب السماء تعثّر في الوصول، سنوات بدت دهوراً بالنسبة إلى منى والمحيطين بها، فها هي بلغت سن الثلاثين وما زالت تحمل لقب"آنسة"الذي كان ينبغي أن تخلعه قبل ما يزيد على خمسة أعوام على الأقل، لكنه أبى أن ينخلع أو حتى ينقشع بخطبة أو علاقة عاطفية تنذر بانقشاع الغمة. "غمة"العنوسة لا تعرف الفروق بين الجنسين، لكن المجتمعات الشرقية، ومنها المصري، جعلت من العنوسة ? أو تأخر سن الزواج - أمراً نسوياً بحتاً. فعلى رغم تعيين المرأة في منصب قاضية وعمدة ومأذونة، وذلك بعد أن استطاعت اكتساب لقب سفيرة وعميدة ومديرة، ما زالت كل من قلب عداد عمرها من حقبة العشرينات إلى الثلاثينات تحمل وصمة"العنوسة". وبحسب الدراسة"الشهيرة"التي أطلقها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر عام 2006، فإن عدد العوانس من الجنسين في مصر، أي ممن أتموا عامهم ال35 من دون زواج، بلغ تسعة ملايين شاب وفتاة، مع العلم أن عدد العوانس الشباب بلغ ستة ملايين شاب بينما العوانس الشابات بلغ عددهن نحو ثلاثة ملايين شابة. منى، تحمل شهادات جامعية وعدداً من الديبلومات والدراسات العليا في مجال تخصصها الأدبي، وهي من عائلة"تدعو إلى التفاخر وذات مستوى مادي معقول جداً"، وجدت نفسها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة مضطرة إلى إعطاء"كلّ من هبّ ودبّ"تبريرات لعدم وجود خاتم زواج أو حتى خطبة في إصبعها. وبسبب كثرة الأسئلة التي توجه إليها والتي يحاول جميعها الوصول إلى"المشكلة"التي أكسبتها لقب"عانس" تقول:"طبعاً ليست هناك أية مشكلة تحول دون زواجي، باستثناء أنني لم أجد الشخص المناسب بعد. وعلى رغم ذلك، فإن كثرة هذه الأسئلة التي بدأت تطرح عليّ من أقرب المقربين والمصحوبة بنظرات العطف والشفقة حيناً وعلامات الاستفهام والتعجب أحياناً بدأت تدخل الشك في نفسي، وربما تكون هناك مشكلة وأنا لا أعرفها". منى عمدت أخيراً إلى تجنب الخروج من البيت إلا في حالات الضرورة، فهي تتوجه إلى عملها صباحاً وتعود مساء، ولا تخرج مجدداً حتى تقلص نظرات التعجب والأسئلة المتطفلة. وتقول:"كنت قبل سنوات أشاهد الأفلام المصرية القديمة التي تستخدم اسم"عانس"وأضحك عليها. كانت الكلمة كوميدية بالنسبة إليّ وكانت مرتبطة في ذهني بالجهل والتخلف. الآن أحمل اللقب رغماً عني، وليس أمامي إلاّ حلّ من اثنين، إما قبول أول من يطرق بابي طالباً الزواج بي حتى لو كان غير مناسب، أو الاستمرار في حمل اللقب حتى إشعار آخر". وإذا كانت الدراسات لم تفرق في صبغ صفة العنوسة على الجنسين، فإن المجتمع ما زال يحتفظ للشاب بلقب أعزب، وللفتاة بلقب عانس، وإذا قيل عنها إنها"عازبة"فهو لقب يوحي بوجود مشكلات أخلاقية. وإذا كانت منى فضلت العزلة الاختيارية هرباً من"العنوسة"، فإن غيرها اخترن ال"فايس بوك"لمناهضة هذا التمييز المجتمعي. "عوانس من أجل التغيير"هو اسم مجموعة حديثة ظهرت على الموقع الإلكتروني ال"فايس بوك"على يد فتاة هي يمنى مختار. المجموعة اختارت لنفسها اسماً على غرار المجموعات السياسية المعارضة التي ظهرت في المجتمع المصري خلال الأعوام الأخيرة، مثل"الحركة المصرية من أجل التغيير"كفاية و"مصريون من أجل التغيير"وغيرهما. لكن"عوانس من أجل التغيير"لا تهدف إلى تغيير نظام الحكم السياسي، لكنها تهدف إلى تغيير نظام الحكم على الفتيات، بمجرد بلوغهن سناً معينة من دون أن يتزوجن، ولا يبرر النظرة السلبية أو المائلة إلى الشك أو حتى الشفقة إليها. وتقول مختار في تعريف المجموعة:"هي حركة اجتماعية تهدف إلى تغيير النظرة السلبية الموجهة إلى كل عانس، والتي تجعلها أمام أمرين: إما الزواج بأي شخص للتخلص من هذا اللقب الجاثم على أنفاسها، أو الثبات على موقفها في انتظار الشخص المناسب لها، ولتتحمل وقتها كل اللعنات التي سيقذفها المجتمع بها". وعلى عكس ما يعتقد البعض من إن المجموعة ذات أفكار واتجاهات نسوية تدعو إلى قهر الرجال أو القضاء عليهم أو إجبارهم على الزواج، فهي تهدف إلى إحداث تغيير في الطريقة التي يفكر بها المجتمع. وتوضح مختار:"لا نسعى إلى معاداة الرجال في أي شكل من الأشكال، بل نرى أن انضمامهم الى الحركة يساند محاولات تغيير هذه النظرة السلبية في محاولة لإقناعهم بكف أيديهم عن الفتاة التي تأخر زواجها". وتطالب مختار الجميع بالتوقف عن وضع ضغوط نفسية غير منطقية وغير مبررة على الفتيات غير المتزوجات، تقول :"كفانا معايرة للفتاة التي تأخر زواجها، فنحن ندعوها الى عدم اللجوء إلى الاختباء، بهدف التخلص من أسئلة المتطفلين والفضوليين. ونوضح لها أن"خنوعها"يخسرنا قوة يمكن أن تكون أكثر فاعلية في المجتمع". وتضيف أن الهدف من المجموعة ليس تشجيع الفتيات على عدم الزواج"ولكن نرفض أن تتزوج أي فتاة تحت ضغط الأسرة أو المجتمع أو لمجرد التخلص من لقب عانس، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عودتها إلى منزل ذويها حاملة لقب"مطلقة". وهكذا، يتوقع أن تشن المطلقات في المستقبل القريب مجموعة"مطلقات من أجل التغيير"لتحسين صورة المطلقة في المجتمع، لا سيما أن أعداداً متزايدة من الفتيات يحملن لقب"مطلقة"هرباً من لقب"عانس". نشر في العدد: 16677 ت.م: 01-12-2008 ص: 25 ط: الرياض